د. خالد بن نايف الهباس
كاتب سعودي
TT

تصورات مختلفة حول السياسة الدولية

تشهد الساحة الإقليمية والدولية تطورات سياسية متسارعة قوامها طروحات ومقاربات تسعى من خلالها القوى الفاعلة على المسرح الدولي إلى إيجاد حلول للقضايا والأزمات القائمة، وقد بدت هذه المقاربات واضحة من خلال مداولات القادة والزعماء خلال جلسات الدورة السبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيونيورك، والتي سيطر عليها ثلاثة توجهات رئيسية، تمثلت في طروحات كل من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين. وإذا كانت هذه التصورات ليست مفاجئة، إلا أنها تنذر بأن هناك تباعدًا في مواقف هذه القوى الدولية وتباينًا في قراءتها للأوضاع الدولية أو ما يجب أن تكون عليه أطر التفاعل داخل النظام الدولي، مع إيماننا بأن هناك خطوطًا حمراء لا تتجاوزها القوى الكبرى تجاه بعضها الآخر حتى لا تدخل في مواجهة صريحة في ظل وجود الردع النووي لدى كل منها.
خطاب الرئيس الأميركي لم يخرج عن المألوف أو المتوقع، وكان أقرب إلى المدرسة المثالية الويلسونية في العلاقات الدولية منه إلى الواقعية القائمة على القوة والمصلحة، حيث استغرق الرئيس الأميركي كثيرًا في التحدث عن التعاون الدولي ونشر الديمقراطية وحقوق الإنسان والإصلاح السياسي والنمو الاقتصادي، لكنه لم يقدم حلولاً للمشاكل السياسية القائمة، خاصة تلك التي تسيطر على الأجندة الدولية مثل الأزمة السورية والليبية واليمنية، بل إنه تجاهل بشكل مقصود وغريب القضية الفلسطينية. وهذا يقود إلى عدد من الاستفسارات؛ هل مردّ ذلك عجز أميركي عن فعل شيء، أم أن صانع القرار الأميركي لديه أولويات يسعى إلى تحقيقها في أماكن أخرى من العالم، وبالتالي فإن حل قضايا الشرق الأوسط لم تعد تحظى بأهمية تذكر على أجندة السياسة الخارجية الأميركية؟ لماذا تمنح واشنطن المنافس الروسي الفرصة كي يستغل التراجع في الدور الأميركي في الشرق الأوسط لملئه تحت مسميات مختلفة مثل مكافحة الإرهاب؟ هل تريد واشنطن إدخال روسيا في المستنقع الشرق أوسطي لإنهاكها فيما تتفرغ هي لمعركتها الرئيسية تجاه المنافس الصيني في الشرق الآسيوي؟ أم أن ما يتم حاليا من تطورات سياسية هو نتاج تفاهمات تمت على هامش الاتفاق النووي الإيراني، وأن روسيا تسعى إلى تعزيز حضورها في المنطقة، خاصة في العراق وسوريا في حال تراجع الدور الإيراني فيهما، وكذلك خوفًا من فقدانها إيران لصالح واشنطن مستقبلاً؟
خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان مليئا بالنفس القومي، الذي وإن خلا من آيديولوجيا الحرب الباردة، إلا أنه أكد على الاختلاف الكبير بين النهج الروسي والنهج الغربي في معالجة القضايا الدولية، ومتهمًا القوى الغربية باستغلال فترة ما بعد الحرب الباردة للتوسع عسكريًا وسياسيًا في مناطق مختلفة من العالم، حيث لم يكتفِ الرئيس الروسي بتحميل الغرب مسؤولية بعض الأحداث في جزيرة القرم وأوكرانيا بل ألقى عليها مسؤولية ما هو حاصل من فراغ سياسي وأمني في المنطقة العربية؛ هذه المنطقة التي تحاول موسكو الدخول من خلالها إلى معترك «الدور الدولي الفاعل»، مؤكدًا على أهمية تعزيز دور الدولة القومية ومؤسساتها من أجل تعزيز حالة الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي. وحاول استغلال موضوع الإرهاب الذي يمثله تنظيم «داعش» في العراق وسوريا كذريعة لقيادة تحالف دولي يمكن من خلاله لموسكو أن تصبح لاعبًا رئيسيًا في شؤون المنطقة، وأن مكافحة الإرهاب والتطرف تعتمد في جزئية منها على دعم الأنظمة السياسية القائمة، خاصة النظامين السوري والعراقي.
أما خطاب الرئيس الصيني فقد عبّر عن مبادئ السياسة الخارجية الصينية التي تتبنى «مقاربة تنموية» للدور الصيني على الساحة الدولية، حيث التركيز على الاعتماد المتبادل بين الدول ونشر ثقافة السلام والحرية والعدالة والتنمية والديمقراطية في القرن الواحد والعشرين. وأن النظام الدولي يجب أن يرتكز على قاعدة ربح - ربح بدلاً من سيطرة القوي على الضعيف، وهذا يتطلب تفعيل الدبلوماسية متعددة الأطراف وخلق نظام أمن عالمي قائم على «الأمن التعاوني» وحوار الحضارات. والحقيقة أن خطاب الرئيس الصيني يأتي تعبيرًا عن حرص الصين على تبني سياسة خارجية حذرة تتحاشى من خلالها التورط في الأزمات السياسية، والتركيز بدلاً من ذلك على توسيع مصالحها الاقتصادية حول العالم وبناء قدراتها العسكرية. من هنا نجد أن خطاب الرئيس الصيني خلا من أي إشارة إلى القضايا الإقليمية، سواء في منطقة الشرق الأوسط أو غيرها من المناطق.
الخلاصة هي أنه هناك «حزم» روسي يقابله «تراخٍ» أميركي و«نأي أو حياد» صيني، ولعل المنطقة العربية في صلب التناقض الروسي الأميركي، ويمكن القول: إنه بدا واضحًا أن هناك سيناريوهات تحاك لرسم مستقبل النظام الدولي، لا سيما ما يتعلق منه بالمنطقة العربية، لا يبدو واضحًا إن كان للدول العربية دور فاعل في ذلك، وأن هذه السيناريوهات يتم رسمها بطريقة مختلفة عن المنطق التاريخي للاستعمار القائم على القوة العسكرية الصريحة وذلك من خلال استغلال القوى الحاكمة الجديدة في المشهد السياسي مثل الإرهاب والثورات والصراع المذهبي والطائفي والتطور التقني والمعلوماتي.

* مستشار الأمين العام لجامعة الدول العربية