رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

عندما يكون الخروج من التاريخ أفظع من الدخول!

سمعتُ لاجئًا سوريًا وصل إلى أحد المخيمات في ألمانيا، يقول لمراسل قناة تلفزيونية: هربتُ مع أُسرتي لأنني خشيتُ مما هو أعظم! وقال له المراسل: تقصد خوفًا من القتل؟ فقال اللاجئ الطبيب: بل ما هو أفظع! وكأنما ضاق به المراسل ذرعًا فقال له بعصبية: قل يا أخي إنك عاجز ويائس وخائف على نفسك وأُسرتك فاخترتَ الهرب، وإلاّ فكيف ستمنع من طريق هربك من سوريا ما هو أفظع وأعظم؟!
وسمعتُ رئيس الوزراء اليمني خالد بحّاح يقول: إنّ المرحلة المقبلة في اليمن هي الأخطر والأفظَع! ولا شكّ أنّ الرجل يعرف أكثر مما نعرف. لكنْ وبكلّ المقاييس، وبعد عامٍ على احتلال صنعاء من الميليشيات، والتسرب إلى تعز وإب والحديدة وباب المندب وعدن وجنوب اليمن، صار الموقف الآن أفضل بكثير بفضل قوات التحالف العربي. لقد أُخرج المتمردون والعفاشيون من الجنوب، ويكادون يخرجون من وسط اليمن وسواحله. وهناك بالطبع صعوبات في استعادة الأمن والإدارة والأصعب إعادة بناء الجيش وقوات الأمن. بيد أن ذلك كلَّه لا يعني أن المرحلة الماضية، مرحلة الاحتلال وفقد الشرعية، هي أفضل أو أقل مخاطر من مرحلة استعادة الشرعية وإعادة بناء الدولة!
وبمناسبة المفاوضات الليبية الجارية بين الجزائر والمغرب وجنيف، كنتُ أظن أنّ الخلاف الرئيس هو بين البرلمان المنتخب القابع بطبرق، والمجلس الوطني المنتهية ولايته والقابع بطرابلس. لكنْ وجدتُ أنّ وسائل الإعلام من حول المندوب الدولي برناردينو ليون تتحدث في الأيام القليلة الماضية أنّ ليون يوشك أن ينجح في كتابة وثيقة توافق بين فرقاء ثلاثة متصارعين ضمن البرلمان المنتخب: الفريق العامل، والفريق المقاطع لأعمال البرلمان، والفريق المحايد (!). وإذا نجح ليون مع شراذم البرلمان، فسيرى ما هي مطالب المجلس الوطني المنتهية ولايته، وهل يمكن التوفيق بين مسودة توافق البرلمان وتلك المطالب!
ما أردتُ التنكيت ولا التبكيت. وإلاّ لكان بالوسع ذكر التخبط والضياع في أعمال السلطات بالعراق وسوريا والجزائر ولبنان... إلخ. وهذا التخبط ليس له سببٌ واحدٌ، بل عدة أسباب، منها التشرذم إلى ما لا نهاية تحت وطأة المصالح والقبليات والجهويات والتأثيرات الخارجية. لكنني أرى أنّ الأكثر أهمية من ذلك والأكثر خطورةً وفداحةً هو غياب الإرادة، والافتقار للنهوض، واسوداد الأفق أو انقفاله، بحيث لا يشتغل العربي إلاّ بساعات الحدّ الأدنى، وبأقل ما يمكن من جهد، وأقل ما يمكن من أملٍ وطموح. ولأنّ الدعوى مفقودة، فإنه حتى الطموح المشروع للوزارة أو الإدارة مثلاً يصبح طمعًا لا يمكن بلوغه إلاّ بوسائل انتهازية أو غير مشروعة. لقد غاب المشروع الكبير القومي، وما حضرت بديلاً عنه أو تحته المشروعات الوطنية المحلية. وقد كانت الفكرة أنّ غياب المشروع القومي، أدى إلى صراعٍ بين الإسلاميات والوطنيات. لكنّ الأمر في الحقيقة على غير ذلك. فالإسلامي يقاتل الوهم القومي الغائب، ويقاتل الوطنيات والمحليات. بينما ما أمكن للوطني في بلدان الاضطراب أن يجمع الناس من حول وحدة البلدان ووحدة الدول. وآل الأمر في السنوات الثلاث الأخيرة إلى أن بلدانًا عربيةً كثيرةً لا يجمعُ نُخَبها أي جامع إسلامي أو عربي أو وطني محلي. ويخيل للمراقب أحيانًا أنه ما عادت لدى الأفراد والجماعات حتى غريزة حفظ الذات بالمعنى الضيق. وإلاّ فكيف ينقسم برلمانٌ منتخبٌ وهاربٌ من عاصمته (طرابلس)، إلى ثلاثة أقسام، ومن حوله: مسلحو المجلس الوطني المنتهية ولايته، والقبائل، و«داعش»، ومسلَّحون آخرون، فلماذا لم تدفعه غريزة البقاء إلى التوحد؟!
ولا يجوز «ظلم» الطائفيات، وتحميلها المسؤولية، وإن أوهم البعض من طريق استغلالها أنه إنما يريد العمل لصالح هذه الطائفة أو تلك. وأفضل النماذج على ذلك العراق، الذي جاء الأميركيون والإيرانيون وحزب الدعوة والمالكي، لإنصاف شيعته، وتسليمهم مقادير الدولة العراقية الغنية. وما انفضح التزوير إلاّ عندما سيطر «داعش» في صيف العام 2014. لقد تبين أنّ تريليون دولار اختفت، وأنّ الجيش العراقي الشيعي المليوني ذاب، وأنّ المناطق الشيعية بالعراق مثل غيرها تعاني من غياب الكهرباء والمياه والبنى التحتية. وما اقتنع المالكي بالغياب بعد جهدٍ جهيد، بل حاول العودة بشتى الوسائل من طريق إسقاط الرمادي بعد الموصل، ومن طريق دفع الحشد الشعبي إلى مقدمة الصورة بمذابحه وتهجيراته، بل ومن طريق العمل على إسقاط العبادي الذي شجعه السيستاني على إجراء الإصلاح! وفي النهاية: ما هو «مشروع» المالكي أو مشروع إيران في العراق؟ وماذا قدموا للشيعة من وسائل الحياة الكريمة، وها هم العراقيون ينافسون السوريين والأفغان في الهرب إلى أوروبا من جنة ولاية الفقيه والجنرال سليماني و«داعش»!
وكيف يستقيم الحديث عن المشروع الطائفي الإيراني أو العلوي بسوريا؟ وما هو المستقبل الذي ينتظر رُبع مليون شيعي، ومليوني علوي في سوريا بعد خمس سنواتٍ من الآن؟
الصحيح أنه لا مشروع عام وشامل بعد المشروع العربي. وأنّ المشروع الإسلامي السياسي والجهادي هو جزءٌ من الأزمة إن لم يكن علتها الأولى. وأنه على مستوى الوحدات الدولتية فلا بديل من العمل على التضامن الوطني والتوحد الوطني، لأنه الأساس في استمرار المجتمعات، واستعصاء الدول على التفكك. ولكي يكتسب الانتظام الوطني المناعة الضرورية، يأتي التكامل العربي الذي يهبُ الكيان الوطني آفاقهُ ومستقبله واستقراره.
اعتبر كاتبٌ مصري قبل عشر سنوات، أنّ العرب يوشكون على الخروج من التاريخ. وكان يقصد بذلك أنّ الأمة العربية ما تركت بصمتها في القرن العشرين على الحضارة العالمية، أو في النجاح الاقتصادي، أو في نجاح تجربة الدولة الوطنية بعد الحرب الثانية، شأن أمم أخرى كثيرة. لكنني أرى وليس على سبيل النكتة أن العرب دخلوا إلى التاريخ وحاضر العالم في العقود الثلاثة الأخيرة بطرائق كان البقاء خارج التاريخ أفضل منها بكثير: دخلوا من طريق «القاعدة» وغزوتها النيويوركية، ودخلوا من طريق حكامهم الديكتاتوريين الذين قتلوا وشردوا الملايين، ودخلوا أخيرًا من خلال «داعش»، وما أدراك ما «داعش»! ما عرفت البشرية أُناسًا مثل القذافي أو صدام أو بشار الأسد، ولا مثل بن لادن والبغدادي، فإنّ لم ندخل التاريخ بالحضارة، فلندخل بالتوحش!
كان الفيلسوف الألماني هيغل يقول: إنّ الواقعي هو الحقيقي، وإنّ الحقيقي هو الواقعي! وهذا تقريرٌ مفزعٌ يجعل الحقائق والقيم ومطامح الإنسان في السلام والعدالة في قبضة الواقع الذي قد يكون مفروضًا. لا، لا يمكن أن يكون الواقعي هو الحقيقي، حتى لو كان الواقع أنّ القاعدة هي التي اقتحمت بنا رغمًا عنا حاضر العالم بالطريقة المأساوية المعروفة!