توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

مأزق الأسئلة الضبابية

استمع إلى المقالة

السطور التالية جواب عن سؤال وُجّه لي تكراراً، وفي صيغ مختلفة، محورها جميعاً هو المسافة بين الثقافة والوعي، على مستوى المجتمع أو البلد بأكمله. ويظهر لي أن هذا من نوع الأسئلة التي لا يمكن الجواب عنها بنحو قطعي.

بيان ذلك، أن الذين يطرحون السؤال، ليسوا متفقين على الإطار الموضوعي الذي يدور فيه نقاشهم. فهل يقصدون الوعي والثقافة بالمعنى العام الذي يملكه غالبية الناس؟. أم يا تُرى يعنون صنفاً خاصاً من الثقافة والوعي؟.

وقرأت قبل أيام مقالة تعيب على بعض كبار المثقفين العرب تقبلهم فكرة التطبيع مع إسرائيل، ويقول الكاتب إن أولئك المثقفين ينقصهم الوعي بحقيقة الصراع وأبعاده، وموقع التطبيع من هذا الصراع التاريخي. فالواضح أن الوعي واللاوعي يعادل - عند هذا الكاتب - تبني موقف محدد من الصراع مع إسرائيل، وليس الوعي في معناه العام.

وفي وقت مقارب ذكر كاتب آخر أن الشعب الأميركي مغيّب وغير واعٍ بما تدبره النخبة اليسارية من مؤامرات كبرى للسيطرة على مقدرات البلاد. وأظنه قد أشار إلى أن النخبة اليسارية التي يعنيها، تتألف من الأميركيين الأفارقة ورجال الأعمال الذين يديرون شركات التقنية الكبرى. ومعظم هؤلاء من المهاجرين الجدد. أما زعيم هذه النخبة فهو الرئيس الأسبق باراك أوباما، كما يظهر من سياق الكلام.

كما قرأت قبل سنوات مقالاً لكاتب أميركي يقسِم بالإيمان المغلظة، أن كل ما يجري في الولايات المتحدة من انتخابات ومؤسسات، ليس سوى مسرحية محبوكة جيداً، وأن الحكومة الحقيقية التي تدير هذه البلاد هي منظمة الأمم المتحدة، وهي التي تعيّن الرؤساء وقادة الجيش، وتسخّر الإعلام والفن لإبقاء الشعب مغيباً وغير واعٍ بما يجري من حوله.

وأعلم أن بعض القراء الأعزاء سيضحك في سره من هذه التقديرات المنحازة. لكنها أمثلة حية على أن الوعي المقصود في بعض الكتابات، هو تبني الموقف الخاص بالكاتب أو المتحدث: مَن قَبِله فهو واعٍ، ومَن أنكره أو تبنى غيره فهو مغيّب أو غافل.

ويغلب على ظني أن لا فائدة ترتجى من الأسئلة العامة التي لا تدري في أي عالم تدور. ولهذا؛ فقد يكون الأَولى أن «نفترض» مقصداً للسائل، فنحيل السؤال إليه، ونجيب عنه بما يقتضيه هذا المقصد. والغرض من هذا التحوير هو تلافي تضييع الفائدة المرجوة من النقاش. وقد رأيت عدداً من كبار الأساتذة يفعله صراحة، فيقول مثلاً: إنني لا أعلم المقصود بهذا السؤال، لكن سأفترض أنه كذا وكذا...

وعلى هذا المنوال، فسوف أفترض أن غرض السؤال الذي بدأنا به، هو المسافة بين الثقافة في معناها العام، وبين الوعي المؤدي لفهم الواقع والسعي لتغييره؛ فالوعي هنا يقابل القدرة على نقد الواقع، واكتشاف الفارق بينه وبين الوضع الأمثل، أي بين الحاضر والمستقبل، والدعوة إلى سلوك طريق التغيير.

الثقافة هنا تمهد للوعي وتوفر المادة اللازمة لاكتماله، فهي تحرك حاملها كي يلعب الدور التاريخي المطلوب من أهل العلم. وما دمت قد بلغت هذه النقطة، فلا بأس بالإشارة إلى أنني لا أرى المثقف مسؤولاً عن أي شيء، سوى أن ينتج شيئاً يليق بما يحمله من معرفة، تماماً مثل الطبيب والمهندس والفلاح الذين نطالبهم بأن يتقنوا مِهنهم، كي يسهموا في عمران الكوكب.

زبدة القول إذن، أن الوعي يساوي القدرة على نقد الواقع، أي فهم وتفكيك الثقافة التي تبرره، وكمال الوعي يكمن في تشخيص المسافة التي تفصل بين النقطة التي نقف عندها، والنقطة التي نريد الوصول إليها.