د. سعاد كريم
باحثة لبنانية
TT

الثورة الفرنسية... و«يوم الباستيل»

استمع إلى المقالة

إن احترام حقوق الحريات في المجتمع والارتقاء بالأفراد وبالمجتمعات يؤدي إلى مجتمع عادل وحرّ ومتوازن، وشعار الثورة الفرنسية ارتقى بالشعب إلى مستوى «الحرية والأخوّة والمساواة».

في 14 يوليو (تموز) عام 2023 احتفل الشعب الفرنسي في داخل فرنسا وخارجها بالذكرى السنوية لاقتحام سجن الباستيل في 14 يوليو عام 1789. وهو يوم وطني يخلّده الفرنسيون ويمثّل نقطة تحوّل تاريخية في مجريات الثورة الفرنسية، كما يمثّل عيداً وطنياً احتفالاً بـ«عيد الاتحاد» الذي يخلّد وحدة الشعب الفرنسي في 14 يوليو 1789، فيُقام عرض عسكري في جادة الشانزليزيه وسط باريس ويُطلق على هذا اليوم اسم «يوم الباستيل».

معظم شعوب العالم الفقيرة، القليل منهم أو ربما الكثير، يعلمون تفاصيل هذه الثورة، إما درسوا عنها في المدارس أو قرأوا عنها في كتب التاريخ أو في كتب أخرى، لذا سيكون هذا المقال المقتضب جداً مجرّد تذكير بثورة سجّلت نقطة تحوّل من نظام ملكي مطلق إلى نظام جمهوري أقرّ بفصل السلطات وفصل الدين عن الدولة، وحذف الحواجز الجمركية الداخلية واعتماد المكاييل الجديدة والمقاييس القائمة. فماذا حدث في 14 يوليو عام 1789؟!

في الحادي عشر من يوليو 1789، قام الملك الفرنسي لويس السادس عشر (1754 - 1793) بتأثير من النبلاء المحافظين في مجلس الشورى ومع القوات الموجودة في قصر فرساي وفي الساحات بعزل وزير المالية جاك نيكر، الذي كان متعاطفاً مع الطبقة الاجتماعية الثالثة، وأعاد تشكيل الوزارة، فكانت هذه الشرارة الأولى التي تسببت بغضب الشعب في ظل الخشية من تعرضهم وممثليهم وقادتهم (أشهرهم: فولتير، وجان جاك روسو، ومونتيسكيو، ودنيس ديدرو، وغيرهم من الذين شجّعت أفكارهم الثورية الجماهير الفرنسية على القتال من أجل حقوقهم كاشفين عدم كفاءة الملك وحكومته) لهجوم الجيش الملكي أو أفواج المرتزقة الأجانب من فرق عسكرية سويسرية وألمانية وغيرها، فأصبح الهدف الأساسي للشعب هو الحصول على البارود والسلاح.

كل ذلك جعل سكان باريس، المدينة القريبة من التمرد «والثملة بالحرية والحماسة»، كما عبّر عنها فرانسوا مينيه، ينتفضون غضباً وذعراً واندفاعاً، حيث عدَّ الشعب فيها أن عزل نيكر ما هو إلا دليل على بداية انقلاب من جانب العناصر المحافظة، كما ازداد غضب سكان باريس التحريريين من تخوّفهم بأن الحشود الملكية القادمة نحو فرساي ستحاول إغلاق الجمعية التأسيسية الوطنية التي كانت تلتقي في فرساي؛ هذه الجمعية التي أُسست بعد أن واجهت فرنسا في عهد لويس السادس عشر أزمة اقتصادية كبيرة جرّاء تدخّلها في حرب الاستقلال الأميركية وجرّاء الجهود المتواصلة لغزو بريطانيا العظمى على وجه الخصوص، حيث تفاقمت الأزمة نتيجة النظام الضريبي غير العادل. حقاً، لقد اجتمع مجلس طبقات الأمة في الخامس من مايو (أيار) 1789 للبحث في هذه المسألة، لكن الأنظمة القديمة والطبقة الاجتماعية الثانية المحافظة في الحكم - التي كانت تتألف من النبلاء الذين شكّلوا 2 في المائة من سكان فرساي آنذاك - أعاقوا عملهم، ما جعل الطبقة الثالثة وممثليها المنبثقين من الطبقة الوسطى (البورجوازية الوسطى) يعيدون تشكيل أنفسهم في الجمعية الوطنية في السابع عشر من حزيران (يونيو) 1789؛ تلك الجمعية التي كانت تهدف إلى إيجاد دستور فرنسي. عارض الملك في البداية، لكنه اضطرّ إلى الاعتراف بسلطة هذه الجمعية التي أطلقت على نفسها اسم «الجمعية التأسيسية الوطنية» في التاسع من يوليو (تموز). ولكن لماذا تمّ اقتحام سجن الباستيل؟!

عندما وقعت حادثة اقتحام سجن الباستيل في 14 يوليو عام 1789، لم يكن في السجن وقت اقتحامه سوى ثمانية سجناء هم: أربعة مزوّرين ومجنونان ومنحرف هو الكونت دي سولاج وفيلسوف هو الماركيز دي ساد، إلا أن سقوط هذا السجن الذي كان مخزناً للكثير من الأسلحة والذخائر وغيرها كما كان رمزاً للاستبداد الملكي وللسلطة الحاكمة وسط باريس، أطلق الشرارة الأولى لاندلاع الثورة ليصبح في ما بعد رمزاً للجمهورية الفرنسية. لكن لماذا سجن الباستيل؟!

هذا السجن الذي كان حصناً عندما أُنشئ وبُنيَ كحصنٍ للدفاع عن باريس من الشرق بين عامي 1370م و1383م ويعود تاريخه إلى العصور الوسطى وكان اسمه «حصن الباستيد» أصبح سجناً في ما بعد للمعارضين والسياسيين ورجال الدين والمحرّضين ضد الدولة، كما أصبح مخزناً للبارود والمدافع والأسلحة البيضاء، وعُرف باسم «سجن الباستيل».

لم يكن هذا السجن في الواقع حصناً للدفاع عن باريس قبل سقوطه في يد الثوار بقدر ما كان قلعة للطغيان والتعذيب. ولم يُعد الباستيل قصراً إلا في عهد الملك لويس الرابع عشر حين أصدر عام 1667م أمراً ملكياً باعتبار الباستيل أحد القصور الملكية، حيث كان في القرن الخامس عشر حتى عهد لويس الرابع عشر (1638 - 1715) مخصصاً لجواهر التاج وكنوز المملكة ومقراً لخزانة الدولة، حيث شكّلت الطبقة الوسطى، الحرس الوطني، الذي كان يرتدي أفراده قبعات تحمل أشرطة بثلاثة ألوان؛ الأزرق والأبيض والأحمر. وهذه الألوان هي نتيجة دمج أشرطة بلدية باريس الحمراء والزرقاء مع أشرطة الملك البيضاء. فأصبحت هذه الأشرطة وألوانها الثلاثة رمزاً لفرنسا نفسها في ما بعد وألوان علمها.

ولأن للثورة الفرنسية صدى كبيراً في أوروبا والعالم، ويعدّها المؤرخون من أهم أحداث التاريخ البشري فغدت فجراً لبزوغ عصر حديث وأصبحت مثالاً أعلى وهدفاً للحركات التي تلتها ولكل الحركات الثورية في المستقبل، وأصبحت عباراتها وشعاراتها الثقافية ورموزها شعارات مركزية للاضطرابات في التاريخ الحديث، وهكذا فهي لم تكن ثورة فرنسية فقط، بل كانت ثورة عالمية انعكست على البشرية جمعاء، حيث ساهمت بصعود جمهوريات ديمقراطية وأصبحت نقطة محورية لتطوير الآيديولوجيات السياسية الحديثة التي أدّت إلى الليبرالية والراديكالية والقومية والاشتراكية.

* باحثة لبنانية