ماريو فارغاس يوسا
روائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».
TT

«يريدوننا أمواتاً»

استمع إلى المقالة

صدر للكاتب خافيير مورو رواية «فنزويلية» مُحكمة السرد، رغم ما يشوبها من استخدامات لبعض الضمائر بطريقة تختلف عن المألوف في اللغة الأميركية اللاتينية. لكن هذه الرواية، وهي بعنوان «يريدوننا امواتاً»، سهلة القراءة وتصف لنا «حياة رجل، ونضال أسرة وضمير بلد» عبر شخصية ليوبولدو لوبيز الذي كان زعيماً لحزب سياسي كبير معارض لتشافيز ومادورو، ورئيساً ناجحاً لبلدية تشاكاو قبل أن يوجه إليه النظام الديكتاتوري تهمة التسبب في وفاة بعض الأشخاص خلال مظاهرات مناهضة للحكومة. واللافت أن ليوبولدو لوبيز سلّم نفسه للسلطات عام 2014 ليتعرّض على يد نظام مادورو لأبشع أنواع التعذيب في سجن رامو فردي العسكري، حيث أمضى سنوات يتحمّل المهانة بشجاعة نادرة إلى أن صدر حكم بحجزه في المنزل، لكن بعد أن كان فقد الشعبية الواسعة التي كان يتمتع بها، والتي كانت ستسمح له بمنافسة مادورو في جميع الانتخابات التي كان النظام يتلاعب بها ويزوّر نتائجها.

في غضون ذلك كانت زوجته، ليليان تينتوري، البعيدة عن عالم السياسة، تتحوّل إلى الممثلة الفعلية للمعارضة، وتجول العالم، حيث استقبلها رؤساء الدول والبابا، وتدفعها الظروف في مسار سياسي باهر. لكنَّ الحزب الكبير الذي أسَّسه لوبيز وزوجته راح يتهاوى خلال السنوات الأخيرة، في الوقت الذي كان مادورو يواصل مكائده ويشتري القادة العسكريين الذين كلّفهم إدارة تجارة المخدرات التي تولّدت منها ثروات ضخمة جديدة، بينما كانت الدولة الأغنى في أميركا اللاتينية تغرق في الفقر ويتشتّت سبعة ملايين من أبنائها سعياً وراء فرصة عمل في أرجاء أميركا وأوروبا. نحو مليون ونصف من الفنزويليين هاجروا إلى كولومبيا، ومثلهم إلى البيرو التي استقبلت سيل اللاجئين بحفاوة ومنحتهم فوراً تراخيص للعمل رغم احتجاجات بعض القوميين.

كانت فنزويلا، بفضل النفط، ملاذاً لأميركا اللاتينية ووجهة تجذب المهاجرين من بلدان كثيرة، لكنها سرعان ما انهارت وتبدّلت معالمها وأصبحت فريسة للعوز والضائقة. في غضون ذلك، كان ليوبولدو وليلان يواصلان مسيرتهما الشجاعة التي فقدت الكثير من بريقها، بينما كان ساعي الحافلات مادورو يعزز موقعه في السلطة، مدعوماً من المخابرات الكوبية التي كانت قد أحكمت سيطرتها على الأجهزة الأمنية كمثال آخر على ما لا يجب أن يحصل في أميركا اللاتينية. مجتمع حديث ونشيط كان يتحوّل إلى ديكتاتورية مفترسة لا تسمح إلا بالولاء للنظام، ويلاحق من تسوّله نفسه أن يكون مستقلاً أو معارضاً. في موازاة ذلك كانت تظهر ثروات مشبوهة وفنزويلا تتحول إلى دولة استبداد شيوعية يمارس قادتها رأسمالية المنظمات الإجرامية. وكان من الطبيعي أن تفتح لها روسيا الأبواب، وتوثّق معها الروابط على غرار ما فعلت مع أنظمة استبداد أخرى مثل إيران. منذ ذلك الحين أخضع النظام بصورة منهجية كل المنشقين والناشطين، واغتال البعض منهم، أو مارس بحقهم أبشع أنواع التعذيب على مرأى من الغرب الصامت.

هل كان مصيباً ليوبولدو لوبيز في تضحياته؟ لا أعتقد أن بوسعي الإجابة عن هذا السؤال الذي يعود للفنزويليين وحدهم البتّ بشأنه. لكن الأكيد هو أن ليوبولدو وليليان قاوما ببسالة ونزاهة طوال سنوات من أجل أكبر عدد ممكن من الفنزويليين، من غير الوقوع أبداً في إغراءات وحبائل مادورو الذي كان يحاول إقناعهم بشتى العروض. وفي نهاية المطاف لجأ ليوبولدو إلى السفارة الإسبانية التي هرب منها بعد أشهر في مغامرة يسردها مورو في روايته بأدق التفاصيل.

كان ليوبولدو مصمماً على أن يرمي نفسه في مياه النهر عندما استسلم حراسه لإغراء الرشوة وسمحوا له بالهرب، وهو اليوم يعيش مع زوجته في إسبانيا حيث يواصلان تقديم المساعدات لأبناء بلدهما المشردين. لكن التي تقود المعارضة الفنزويلية اليوم هي ماريّا كورينا ماتشادو التي ترجّح الاستطلاعات فوزها في الانتخابات الأولية المقررة في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، وفي الرئاسية بعد عام. كل التوقعات تشير إلى أنها ستفوز بفارق كبير على مادورو، لكنّ هذا الأخير سارع إلى وضعها خارج القانون وحرمانها بالتالي من الترشح في الانتخابات، فيما أكدت أنها ستواصل معركتها حتى النهاية. رواية مورو تعرض بالتفاصيل كل ما له صلة بالمعارضة ضد نظام مادورو، وكيف يواصل المواطنون مقاومتهم الباسلة ويتظاهرون ضده مرة غبّ المرة، بينما كانت الحكومات الديمقراطية في العالم تدعم خوان غوايدو، الرئيس السابق المؤقت للجمعية الوطنية، وفقاً لأحكام الدستور. لم يكن غوايدو يتمتع بالشعبية الواسعة التي يتمتع بها ليوبولدو لوبيز، لكنه رغم ذلك أظهر شجاعة في معارضته لنظام مادورو، وهو اليوم منفيّ في الولايات المتحدة. إنه وضع محزن هذا الذي تعيشه فنزويلا اليوم. دولة تنهشها الشيوعية، وتنهب كل مصادر الثروة التي بنت عليها عظمتها في السابق، ومحكوم عليها، مثل كوبا، بالغرق في التخلّف تحت أبشع أنواع القمع والتعذيب.

هل ثمّة حلّ لوضع هذا البلد؟ بطولة الفنزويليين ليست موضع شك على الإطلاق، إذ برهنوا مراراً وتكراراً عن شجاعتهم وإيمانهم بأن الديمقراطية وحدها هي التي يمكن أن تنقذ هذا البلد من الخراب ومن جشع حفنة من العسكر الديماغوجيين. لكن الحل ليس سهلاً. والحق يقال إن الأنظمة الديكتاتورية التي تساعدها روسا وإيران ودول أخرى، تزداد صعوبة إسقاطها يوماً بعد يوم، لأنها تعلّمت كيف تحافظ على السلطة وتحصّنها بالقمع والفساد، وفي أميركا اللاتينية بفضل أجهزة المخابرات الكوبية. ورغم أن هذه الأنظمة لا تحظى إلا بتأييد أقلية صغيرة من المواطنين، فإنها تفلح في منع المجتمعات من الإمساك بزمام مصيرها ومواجهة الاستبداد. ومع مرور الوقت، يصعب التخلص من هذه الأقليات التي تدّعي تمثيل الجماهير وتستخدم كل ما يلزم من عنف ولا تبالي بالإدانة الدولية كما يستدلّ من حالة مأساوية أخرى مثل نيكاراغوا. يا له من مصير بائس هذا الذي ينتظر أميركا اللاتينية التي عندما بدا أنها تسير على الصراط الصحيح، تبدد كل شيء بسبب هذه المافيات السياسية التي استولت على مقدراتها، كما في فنزويلا التي كانت تنتج 3.5 مليون برميل نفط يومياً وهي اليوم تكاد تتسوّل بفضل فساد زعمائها ونظام مافياوي يتعارض من البحبوحة والرفاهية.

تكفي مطالعة رواية خافيير مورو لنعرف كيف أن حكومة يمكن أن تقضي على بلد خلال فترة قصيرة نسبياً. وعندما يُكتب تاريخ فنزويلا يوماً، ستعترينا الدهشة أمام صنائع حفنة من «الثوريين» الذين كانوا على وشك تدمير بلد بلغ أرفع مستويات النمو والرفاهية في المنطقة. هل ستعود فنزويلا التي كنّا نعرفها؟ الجواب على هذا السؤال متروك للمستقبل، لكن الذين يريدون الوقوف على حقائق هذه المأساة الفظيعة، عليهم قراءة هذه الرواية التي بذل خافيير مورو جهداً كبيراً في كتابتها.