دخل صديقي على والده المريض. كان ممدداً على فراش المستشفى فاقداً الوعي. وظائفه الحيوية مدعومة بأجهزة، وجسده ساكن تماماً. لا يلتفت نحو محدثه، ولا تتفاعل عضلات وجهه مع ما يُقال. مد صديقي يده إلى كف أبيه، فقبض أبوه بأصابعه عليها. هذه الحركة البسيطة أحيت عند صديقي الأمل أن والده سيستعيد عافيته، أو ما يكفي منها لكي يتجاوز مرحلة الخطر.
زفّ صديقي البشرى إلى الطبيب، فأجابه بأن قبضة اليد ليست أكثر من استجابة بدائية لا إرادية. لو وضعت أصبعك في كف طفل حديث الولادة سيقبض عليه أيضاً. وأن انقباض اليد حالياً دليل على فقدان الجهاز العصبي المركزي السيطرة على الأطراف أكثر مما هي دليل على تعاف. هذه الاستجابة الحركية تتحكم فيها بؤر عصبية متناثرة، مثل وحدات عسكرية انقطع اتصالها بمركز قيادة العمليات.
الأقاويل حول ما شهدناه من تمرد لمجموعات «فاغنر» في روسيا تتراوح بين متناقضات؛ من قائل إنها كشفت ضعف الجيش الروسي، وتردي المؤسسة العسكرية. وقائل إنها لم تكن أكثر من تمثيلية. لا يمكن لمتمردين، في دولة كروسيا، ومهما كانت قوتهم، أن يسيطروا على قيادة المنطقة الجنوبية، ويصلوا إلى مئتي كيلومتر من العاصمة، من دون طلقة رصاص، ولا يمكن أن ينفضّوا من دون طلقة رصاص. لا يمكن.
الرئيس بوتين صدَّرَ عن نفسه صورة الرجل القوي، الداهية، القادر على فرض إرادته داخل روسيا وخارجها، والعالم اقتنع. في السنوات الأخيرة برز اسم «فاغنر» للمقاتلين المتقاعدين، ومعها الإشارة إلى زعيمها يفغيني بريغوجين، الموصوف سابقاً بـ«طباخ الرئيس» وكفه القوي. لا يتعرف غير المتخصصين على اسم آخر مرتبط بروسيا. ربما يتعرف البعض على اسم سيرغي لافروف وزير الخارجية، وهو مروج للسياسات الروسية أكثر منه مشارك في صنعها. عن نفسي، أعرف اسم رئيس الوزراء السابق، أو بالأحرى الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف، لأنني كنت مراسلاً في موسكو وقت الانتخابات التي جاءت به رئيساً، مع بقاء الرئيس بوتين في منصب رئيس الوزراء وصاحب السلطة الحقيقية.
لكي تعمل رافعةٌ ميكانيكية، لا يكفي أن يكون المركز قوياً، والطرف ثقيلاً، لا بد أن تكون الذراع الواصلة بينهما قوية. لا يمكن تحميل ثقلين بالأطنان على طرفي عصا مكنسة خشبية، ستنكسر، وتتحول من رافعة لها وظيفة، إلى ثقلين منعزلين كلٍّ في مكانه. وإن أردت رفع ثقل بأطرافك، فسيوصيك الأطباء أن تنزل بجسمك قرفصاء، ثم ترتفع بالثقل محملاً على جسدك كله. والغرض من هذا توزيع الجهد على أكثر من عضلة. إن انثنيت راكعاً، ورفعت الثقل بأطرافك فسينصب الجهد على العمود الفقري، وتؤذيه. والنتيجة إصابة عصب مركزي في الجهاز الحركي تُقعد الجسم كله. تصير العطسة مؤلمة، الخطوة مؤلمة، القعود مؤلماً، الجلوس مؤلماً، والقيام مؤلماً. ومحاولة نقل ثقل من مكانه مستحيلة مهما كان ضئيلاً.
وضع روسيا شبيه بهذا. أياً كانت التفاصيل والتفاهمات والدوافع. ما حدث عطب جوهري في نظام إدارة دولة كبيرة ومؤثرة، منبعه المركزية المفرطة؛ إذ انفراد نقطة واحدة بالسلطة لا يعني فقط انفرادها بالنفوذ، وإلغاء ما حولها من أجهزة مهمة وأساسية، بل يعني أيضاً إرهاقها بالجهد. والخطوة التالية ضمورها تدريجياً تحت وطأة الحِمل المبالغ فيه. ألا نتعلم هذا في مبادئ الإدارة؟ أن نوزع المهام حتى لا نثقل المركز فيتعطل العمل في انتظار دوره، ويفقد المديرون الوسطاء حس المبادرة والقدرة على اتخاذ القرار؟
لا نستطيع في دولة مثل روسيا الاطلاع على خبايا ما يحدث. لكن حتى المتابعة الإعلامية البسيطة تمنحنا إشارات. في المشهد الذي أذاعه التلفزيون الروسي مُمَنتَجاً، قبيل حرب أوكرانيا، ظهر رئيس الاستخبارات الأجنبية سيرغي ناريشكين متلعثماً؛ إذ يدلي بتقييمه للوضع قبل الحرب، بينما يقاطعه الرئيس بوتين. ناريشكين أحد أطراف الثلاثي الذي طالما اعتُبِر صاحب القرار في روسيا. العنصر الآخر في هذا الثلاثي وزير الدفاع سيرغي شويغو. وهذا تلقى نصيبه من الانتقادات والاتهامات العلنية من الرجل القوي الآخر، يفغيني بريغوجين، زعيم «فاغنر»، الذي يعمل خارج المؤسسة الرسمية وأجهزتها.
مشكلة المركزية لا تنبع من الاستبداد بمعناه السلبي. غالباً يظن المركز في نفسه خيراً، ربما محملاً بأفضل النوايا، أو محبطاً من أداء عضلات الدولة. ودرجة درجة، يفقد الثقة في الأجهزة الوسيطة، ودرجة درجة، يحمل نفسه من الأعباء ما ينوء به، ودرجة درجة، يعتقد أنه قادر على الاستغناء عن الإدارة الوسطى والتواصل مباشرة مع يد تنفذ ما يريد. والنتيجة ما نرى. درجة درجة يضمر المركز ويعاني من الإصابات الموجعة، وتفقد الدولة المركزية غرضها الرئيسي، الحفاظ على تماسكها ووحدة قرارها.
ما حدث في روسيا بدأ بتضخيم مركزها وانتهى بتقويض هيبة مركزها، وأظهره فاقد السيطرة على الأطراف، أي فعل عكس ما أراد حين حمل نفسه الأثقال الجسام، والتطور الطبيعي للحالة أن تبدو الأطراف قوية لفترة ثم تضمحل هي الأخرى.
في الحالات المتدهورة من إصابات الجهاز العصبي المركزي، أو عجزه الوظيفي، تمد أصبعك إلى كف المريض فيقبض عليه بقوة. تعتقد أن هذا إشارة إيجابية، لكن لا. لقد فقد المركز السيطرة وصارت الأطراف تتحرك لا إرادياً، استجابة لبؤر عصبية بدائية بعيدة عنه. ولا رأيتم مكروهاً في عزيز لديكم.