الحق أن ما قاله محمد سيد كيلاني في كلامه تحت صورته الفوتوغرافية، وما قاله في النص الأول، وما قاله في النص الثالث، يخبر بمعرفته سلفاً لما سيجري له بسبب التجديفات التي تضمنها كتابه «الشريف الرضي: عصره، تاريخ حياته، شعره».
ومعرفته المسبقة هذه لا تحتاج منه (كما تكلف صابر أحمد نايل في كتابه «العلمانية في مصر بين الصراع الديني والسياسي 1900 – 1950») إلى «نبوءة»، أو «استبصار» بالغيب.
إن رد الفعل الديني الغاضب على كتابه لم يتأخر؛ فبعد شهرين وأيام قليلة من تاريخ كتابته مقدمة الكتاب (وأذكر مرة أخرى تاريخ كتابتها: 25 مارس/ آذار سنة 1937) قدمت بحقه شكوى إلى وزير الأوقاف محمد صفوت باشا، فحواها أن في كتابه مطاعن في الدين الإسلامي. وقد قدمت الشكوى إليه، لأن كيلاني كان حينها يعمل موظفاً في قسم الأجر والأحكار في ديوان وزارة الأوقاف، ولأن الشاكين هم موظفو هذه الوزارة!
قلت في المقال السابق إن نايل تحدث عن كتاب كيلاني عبر إيراده 6 نصوص منه تتضمن تجديفاً دينياً، وأقول في هذا المقال: إن الستة نصوص التي أوردها كافية في الإخبار عن الحد الذي بلغه كتابه في الهرطقة والتجديف الديني. لكنه أغفل نصين هما في غاية الأهمية، وأحسب أن لهما (خصوصاً النص الأول) صلة مباشرة برفع شكوى على الكتاب وعلى صاحبه.
النص الأول ورد في سياق اتهامه المشرعين الإسلاميين بأنهم هم المسؤولون عن فساد الحياة الاجتماعية في القرن الرابع الهجري، عصر الشريف الرضي، ذلك لأنهم (كما افترى) أباحوا الزنى!
فلقد قال: «ومَن مِن الناس لا يعرف هؤلاء المحامين الشرعيين (ذهبت النيران بعمائمهم) الذين يجعلون في مكاتبهم أمكنة خاصة يختلون فيها مع الجميلات من النساء اللائي يذهبن لشؤون قضائية. ولا حرج على الأزهريين وأشباه الأزهريين من غشيان بيوت الدعارة السرية ما دامت عبارة (وهبتُ لك نفسي) باقية وستبقى».
النص الثاني ورد في سياق حديثه عن فن الكتابة في عصر الشريف الرضي؛ فلقد قال: «ومن الغريب أن هذه السنّة التي سنَّها كتاب القرن الرابع بقيت حتى العصر الحاضر، فكتاب اليوم، إلا أقلهم، يقدمون مؤلفاتهم بنفس العبارات التي استعملها كُتّاب عصر الشريف. وللأزهريين (قُطعت رؤوسهم) غرام شديد بذكر البسملة وملحقاتها والإكثار من الصلاة على النبي وآله بعبارات مسجّعة. وهذا إمعان في البرود وتعمق في الجمود لا يستسيغه القرن العشرون الذي نفر من عمائمهم الكبيرة، وتألم من جببهم وقفاطينهم الفضفاضة...
دعنا من الأزهريين وسقيم معتقداتهم وعقيم مؤتنقاتهم، وعليل تصوراتهم؛ فالوقت أثمن من أن يُصرف على هذا الوجه، ولننظر إلى أسلوب الكتابة في القرن الرابع الهجري، وهو الموضوع الذي نحن بصدده».
في النص الأول، يتهم المحامين الشرعيين بأنهم من أهل الفسق والعهارة، يستغلون حاجة النساء إليهم في قضايا الأحوال الشخصية، ليفعلوا بهن الفاحشة. ويتهم الأزهريين بأنهم من رواد الخنا ومن أهل الدعارة. كما يتهم الجميلات من النساء صاحبات الحوائج في قضايا الأحوال الشخصية بأنهن في سبيل قضاء حوائجهن لا يرددن يد لامس!
وفي النص الثاني سبّ مقذع وهجاء فاحش للأزهريين مع ازدراء واحتقار بالغ لهم.
وهذا قد يفسر لنا أن الشاكين لكيلاني على كتابه عن الشريف الرضي هم زملاؤه في ديوان وزارة الأوقاف، الذين فعلوا ذلك تضامناً مع المحامين الشرعيين الذين يتصل عملهم في جانب منه ببعض قضايا الأوقاف، وإلا فعملهم الرئيسي يدور في نطاق قضايا الأحوال الشخصية، وهم، كما القضاة الشرعيون، تابعون لوزارة الحقانية.
تضامن زملاء كيلاني مع المحامين الشرعيين، لأن اتهامه لهم بتلك القضية المشينة من شأنه أن يتسبب بضرر فادح لعملهم الرئيسي في قضايا الأحوال الشخصية.
ويظهر أنهم رأوا أن تكون فحوى الشكوى تهمة الطعن في الدين الإسلامي. وفي الكتاب حزمة من النصوص تسند هذه الدعوى المقامة عليه في محكمة الجنايات.
في كتابه المشار إلى عنوانه آنفاً، عرض نايل قضية كيلاني وكتابه عن الشريف الرضي بنقل ما جاء في تغطية جريدة «البلاغ» الخبرية لها. وقد كان نقله منها على النحو الآتي مع شيء من التصرف مني:
تحت عنوان «موظف مسلم في وزارة الأوقاف يطعن في الدين الإسلامي» كتبت جريدة «البلاغ» في 5 يونيو (حزيران) 1937: «رفع موظفو وزارة الأوقاف إلى صاحب المعالي محمد صفوت باشا وزير الأوقاف، ظهر اليوم، شكوى تتلخص بأن محمد سيد الكيلاني أفندي الموظف في قسم الأجر والأحكار بالوزارة ألف كتاباً ونشره ضمّنه كثيراً من المطاعن في الدين الإسلامي».
وتحت عنوان «موظف مسلم يطعن في الدين الإسلامي»، كتبت «البلاغ» في 10 يونيو 1937:
«... وأسرع عبد الحميد سعيد إلى كتابة سؤال إلى معالي وزير الأوقاف في شأن الكتاب وصاحبه، كما أسرع في البلاغ إلى سعادة النائب العام لدى المحاكم الأهلية بطلب التحقيق، وكذا فعل النائب المحترم مدني حزين، وكيلاً لنقابة الأشراف في إسنا، ودخل مدعياً بالحق المدني ضد صاحب الكتاب، وفعل مثل هذا كثيرون، منهم: الأستاذ أحمد نجيب برادة، وعبد الخالق مدكور باشا، وأرسل الدكتور عبد الحميد سعيد كتاباً إلى صاحب السمو الملكي محمد علي ناشده العمل على حماية الدين الحنيف، وأرسل كذلك إلى صاحب الفضيلة الأستاذ مصطفى المراغي شيخ الأزهر بظهور هذا الكتاب».
قد يسأل قارئ كتاب نايل، خصوصاً قارئه المصري: من هو صاحب السمو الملكي محمد علي؟ ولماذا أرسل عبد الحميد سعيد خطابه إليه، ولم يرسله إلى الملك فاروق، لمناشدته العمل على حماية الدين الحنيف؟
أجيب عن هذا السائل بأن مصر في ذلك التاريخ كانت في ظل عهد مجلس الوصاية على العرش الذي امتد وقته من 8 مايو (أيار) 1936 إلى 29 يوليو (تموز) 1937.
وكان الأوصياء على العرش إلى أن يبلغ الملك فاروق سن الرشد السياسي، ليتولى سلطته الدستورية، قريبه الأمير محمد علي باشا توفيق ابن الخديو محمد توفيق وأخو الخديو عباس حلمي، وخاله شريف صبري باشا، وعزيز عزت باشا.
وتحت عنوان «مشيخة الأزهر والموظف المسلم في وزارة الأوقاف» كتبت «البلاغ» في 12 يونيو 1937:
«وقد انتظرت المشيخة (مشيخة الأزهر) أن ترفع إليها نسخة من هذا الكتاب فلم تقدم إليها، ولكن كثير من المسلمين كتبوا إليها يطالبون بالعمل على مصادرة الكتاب ومعاقبة صاحبه، فكُتب لصاحب الفضيلة الأستاذ شيخ الجامع الأزهر بيان عن فقرات وردت في الشكاوى المقدمة إلى المشيخة وعن الفقرات التي نقلها (البلاغ) عن الكتاب إلى صاحب السعادة النائب العمومي، وصاحب المعالي وزير الأوقاف ووزارة الداخلية، يطلب فيها مصادرة الكتاب والقيام بما يوجبه القانون نحو الموظف». وللحديث بقية.