د. عبد الله فيصل آل ربح
أكاديمي سعودي, أستاذ مشارك لعلم الاجتماع الديني والنظرية الاجتماعية جراند فالي الأميركية, وزميل أبحاث غير مقيم بمعهد الشرق الأوسط بواشنطن العاصمة. نشر العديد من الأبحاث المحكمة في دوريات رصينة, إضافة لنشره لعدة دراسات في مراكز الفكر بواشنطن. ومن أهم إصداراته كتاب «المملكة العربية السعودية في الصحافة الأنجلو: تغطية المملكة في القرن العشرين»
TT

التطرف... كراهية الحياة

استمع إلى المقالة

يستخدم مصطلح التطرف (Extremism) للإشارة إلى الآيديولوجية التي تنزع لتبني وفرض توجهات بعيدة كل البعد عن الاتجاه السائد في المجتمع وما تسالم عليه العقد الاجتماعي، لا سيما في النواحي الدينية والسياسية. الأمر يتعدى مجرد التعبير عن وجهة نظر مغايرة للسائد، ليصل إلى النزوع لتغيير أساسيات العقد الاجتماعي وإعادة ترتيب الأولويات وفق تفسيرات متشددة لمفردات ذلك العقد المنصوص عليه في الكتب الدينية المقدسة أو الدساتير السياسية. ولعل أهم ما يميز الفكر المتطرف هو نزوعه نحو إقصائية الآخر، في الوقت الذي ينادي بمظلوميته بأنه هو المستهدف بالإقصاء.

الإقصاء يقوم على فكرة «احتكار الحقيقة» وبالتالي تحمّل مسؤولية نشرها والدفاع عنها. وهنا يأتي دور الآيديولوجيا لتقوم بدور الرافد المعرفي لإقناع الجمهور - لا سيما الشباب منهم - بعدالة القضية و«حقّانية» التوجه المخالف للعقد الاجتماعي القائم، واتهام ذلك العقد بأنه يقوم بدور حماية السلطة (السياسية، الدينية، والاجتماعية).

وعليه، تلزم تعبئة الشباب ليغيروا واقعهم الذي ترى القيادات أنه «باطل»، ويجب تغييره من أجل إحقاق الحق.

وعند الحديث عن التطرف القائم على أساس ديني، الذي عانت منه كثير من المجتمعات المتدينة، ومنها المجتمعات الإسلامية، فإنه ينبغي التنبيه إلى أن الدين نفسه لا يخلق التطرف في بيئة غير موجود بها أصلاً. فالتطرف له جذور اجتماعية ونفسية واقتصادية تهيئ أعضاء المجتمع لتقبل الفكر المتطرف. يعمل الدين - المذهب رافدا معرفيا يقوم بدور شرعنة التطرف، من خلال بث فكرة «الفرقة الناجية» مقابل البقية الهالكة أو «حطب جهنم». فالموضوع يتعدى حتمية دخول الآخر- المختلف للنار ليصل إلى الاجتهاد في جعلهم يَصْلَونَ نار الدنيا قبل الآخرة.

يقوم زعماء التطرف بزرع بذوره في الشباب من خلال التعبئة الاجتماعية القائمة على كره الحياة الدنيا وحصر التفكير في الآخرة، لينتقلوا بعدها إلى تفاصيل تلك الآخرة من نعيم دائم وخلود أبدي. يساعد هذا على فكرة الخلاص والتحرر من الزهد الديني الذي يستلزم إعراضا عن كثير من الملذات التي قد تشكل عائقاً أمام الالتزام الديني - أياً كان المعتقد الذي يلتزم به المؤمن. وتزيد الحاجة إلى هذا الآلية في التفكير في المجتمعات المنفتحة التي يجد فيها الشاب خيارات عدّة للاستمتاع بوقته بجودة دنيوية تركّز على سعادته الشخصية الآنية.

بالمقابل، تستخدم الجماعات المتطرفة رموزها الدينية - التي يحترمها غالبية المجتمع - من خلال التركيز على جوانب محددة من سيرة تلك الرموز لتلهب مشاعر الجماهير، وبالتحديد الفئة المراد تجنيدها، من خلال تحفيز مشاعر: الغضب، النقمة، الحمية، والعزة من أجل حمل الجماهير على تبني أفكار توافق الصورة المرسومة لتلك الرموز. ففكرة أن الصحابي- الإمام - التابعي- الفلاني قد سُجن أو عُذب أو قُتل من أجل الحق تستدعي أهمية اتّباع العامة لمنهجه الذي لا يختلف عليه اثنان. بالطبع، فإن الجزئية المغيّبة عن الجماهير هي نوعية ومستوى حقانية القضية التي تبنّاها ذلك الرمز مقابل حقانية القضية التي تتم تعبئتهم من أجلها. وهنا مربط الفرس، فقادة التطرف يراهنون على سطحية «إسقاط» الماضي على الحاضر ويتجنّبون شرح تفاصيل المقاربة بين قضية الأمس وقضية اليوم، وبالتالي وضع أنفسهم - أو قادتهم الكبار - موضع الشخصيات التاريخية التي يحترمها حتى أعداؤهم الذين يسعون للتعبئة ضدهم.

إن توفير البنى التحتية والبرامج التي تعزز جودة الحياة هو السبيل الأنجع لمواجهة التطرف الذي يقوم على نبذ الحياة الدنيا وحذف السعادة الدنيوية من قاموس الشعوب. فعندما تُقنع الشباب بأنه لا يستطيع أن يكون سعيداً في هذه الدنيا، لأن كل ما يجعله سعيداً «محرّم شرعاً»، فإن الشاب سيكون بين أن يعيش صابراً محتسباً، أو أن يحاول أن يخرج من الدنيا بأسرع وقت ممكن، وبطريقة شرعية! وهنا تأتي الخطوة الأخطر المتمثلة في عرض العمليات الفدائية (الانتحارية) على الشباب، الذين سيتسابقون لـ«نصرة الحق» التي ستحررهم من قيود الالتزام الديني في الدنيا وتوصلهم إلى النعيم «الحلال» في الجنة.

الترفيه بوصفه ثقافة يحتوي على أشياء مختلف عليها، وهو مفيد في كونه يكسر حدّية المزايدة. فعند الالتزام القسري يتجه الناس للمزايدة على بعضهم والتضييق الشديد. ولنا في الوضع الداخلي في المملكة خير مثال، فعندما كانت القيود الاجتماعية على أساس ديني شديدة، كان المتطرفون يزايدون على الدولة - بل على بعضهم - في قضية الالتزام الحرفي بالشريعة. وقصة ذلك الواعظ الذي كان يطالب وزير العمل السابق بتطبيق فكرة المولات (الأسواق) المفصولة للنساء عن الرجال، وعندما لم يحصل على مراده، توجه لمسجد الوزارة وخطب في الموظفين بعد صلاة الظهر ضد الوزير وسياسة الوزارة.