منذ أن أعطى فلاديمير بوتين أوامره بالهجوم على أوكرانيا أواخر فبراير (شباط) 2022، انكشف الوضع الحرج الذي يعاني منه الجيش الروسي. واتضحت فداحة هذا الوضع مع تمرّد مرتزقة مجموعة «فاغنر» التي تضمّ عدداً غفيراً من المعتقلين السابقين الذين التحقوا بهذه الجماعة تحت قيادة يفغيني بريغوجين، وكان لهم الدور الأساسي في احتلال مدينة باخموت في أوكرانيا، وغيرها من الحملات العسكرية التي كانوا فيها سنداً لقوات الجيش الروسي النظامية.
وقد تولّدت عن الصدام بين مجموعة «فاغنر» ووزير الدفاع، الجنرال سيرغي شويغو، أزمة خطيرة في العلاقات بين المرتزقة وحكومة بوتين، عندما توجّهت هذه المجموعة من أوكرانيا إلى مدينة روستوف الروسية وسيطرت على قيادة أركان الجيش فيها، وهددت بالزحف على موسكو إلى أن أقنعها، على ما يبدو، الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو بالعدول عن خطتها. وعندما كانت على بعد 200 كيلومتر من العاصمة الروسية، وكل الدلائل تشير إلى وقوع مواجهة كبيرة مع الجيش الروسي، فاجأت الجميع بقبولها التراجع عن مواصلة الزحف باتجاه العاصمة. وقد تعهد بوتين بعدم ملاحقة الذين قرروا الانتقال إلى بيلاروسيا أو الانضمام إلى القوات المسلحة الروسية، بموجب عقود قال إن حكومته سوف تحترمها.
لم تحقق روسيا حتى الآن سوى تقدم ضئيل في احتلالها لأوكرانيا. والسبب في ذلك بسيط جداً: الروس ليسوا راغبين في القتال، وأعتقد بأنهم على حق. ما لروسيا في هذا البلد الأجنبي الذي يريد بوتين اليوم احتلاله؟ صحيح أن أوكرانيا كانت في الماضي جزءاً من روسيا، لكن إذا لجأنا إلى هذا المعيار، سيطالب العالم كله بالعودة إلى الحدود القديمة، وتنشب حروب أينما كان. إن تاريخ الأمم حافل بتعديل دائم للحدود بفعل موازين القوى السائدة. والغريب هو الصمت الذي يخيّم على المجتمع الروسي، الذي على الرغم من المؤشرات الواضحة على أنه ليس مؤيداً لهذه الحرب التي لا يعتبرها حربه، فإنه لا يصدر عنه سوى القليل من الأصوات المعترضة على قرار بوتين اجتياح أوكرانيا واحتلالها. لكن الجنود من جهتهم يرفضون القتال، ما وضع الروس أمام واقع غير منتظر، أي أن الأوكرانيين الذين من المفترض أنهم أعداؤهم يقاومون الغزو ببسالة مدهشة فاجأت المجتمع الدولي. ويعود فضل كبير في ذلك إلى الدعم المنهجي غير المسبوق الذي يقدمه لهم الحلف الأطلسي.
تمرّد المرتزقة هو أوضح دليل حتى الآن على الأزمة التي يتخبط فيها نظام بوتين، والصعاب الجمّة التي تواجه غزو أوكرانيا. ورغم أن هذا التمرّد يبدو قد خمد في الظاهر، فإنه ليس من المستبعد أن يعود للظهور بين قطاعات عسكرية غير راضية عن الوضع الراهن، كما يتبيّن من اعتقال الجنرال سيرغي سوروفيكين لاتهامه بالتواطؤ مع المتمردين، ما يؤكد أن ثمّة منشقّين على أعلى المستويات في المؤسسة العسكرية. وحتى كتابة هذه السطور، لم نسمع شيئاً من المتمردين ولا من القيادات العسكرية التي، عاجلاً أو آجلاً، ستكشف عن أمور لن يكون فلاديمير بوتين مرتاحاً إليها.
على أية حال، الخاسر الأكبر في هذه الأزمة هو الرئيس الروسي الذي كان حتى الآن يحكم قبضته الحديدية على السلطة ويعتقد بأن اجتياح أوكرانيا سيكون مجرد نزهة بالنسبة لقواته. وإذا كان بوتين قد تمكّن من معالجة الأزمة مؤقتاً، فمن البديهي أن ما حصل ستكون له تداعيات على سلطته التي اهتزّت، ونزعت عنه هالة الزعيم الذي لا يقهر كما يستدلّ من حملة التطهير التي بدأها بين القيادات العسكرية. وليس مستحيلاً أن تجبره القوات المسلحة على التنحي والانكفاء إلى الظل على غرار آخرين غيره، لأن القيادات العسكرية هي التي خرجت ظافرة من هذه الأزمة، على الأقل في المرحلة الراهنة، حتى إن وزير الدفاع، الذي ظهر بين صفوف الجيش بعد غياب دام أياماً عدة، هو الذي كان المنتصر الفعلي في هذه الأزمة التي أكّدت سيطرته الكاملة على القوات المسلحة.
لا نعرف سوى القليل عن «روسيا بوتين»، التي نكاد نجهل كل شيء عما يجري فيها. لكن ما حصل كان لا بد أن يحصل، والذي خرج ضعيفاً ومهيض الجناح من هذه الأزمة هو الرئيس الروسي الذي تعرّضت سلطته الواسعة لهجوم حفنة من المرتزقة كانوا في خدمته، وانهارت خطته التي كانت ترمي إلى ترسيخ نفوذه في روسيا وتعزيز موقعه في العالم باجتياح أوكرانيا. وهو اليوم في متاهة لا مخرج منها، قد تكون بداية لنهاية عصره، أو لإضعافه في أحسن الأحوال. ورغم صعوبة معرفة حجم المعارضة بين المدنيين في روسيا، فإن ثمة مؤشرات على أن غالبية المواطنين ليسوا متحمسين لفكرة احتلال أوكرانيا.
بيت القصيد هنا هو أن الحرية مفقودة في روسيا، والناس تواجه صعوبات كبيرة في التعبير عن آرائها. والمرتزقة، بتصرفهم غير المعهود، أعادوا للمدنيين روح المبادرة والانتقاد بعد أن تحدّوا علناً وزير الدفاع المكلف قيادة الحرب في أوكرانيا. إنها المرة الأولى التي يتعرّض فيها بوتين للتهديد بحرب أهلية منذ وصوله إلى السلطة، وعلى يد مجموعة من الخارجين عن القانون كانوا عماد حربه في أوكرانيا، بعكس جنوده النظاميين الذين، رغم انعدام رغبتهم في الحرب وقلة حماسهم في المعارك، فإنهم كانوا الأكثر تبصراً لأنهم أظهروا تردداً في القتال من أجل قضية يعرفون مسبقاً أنها خاسرة.
هل سيصغي سيّد الكرملين إلى هذه التحذيرات؟ أم أنه سيصّر على موقفه كما يستدلّ حتى الآن من تصريحاته؟ لكن ما كان قبل تمرّد المرتزقة التي حملت السلاح ضد الاتحاد ليس كما بعده. والمليونير الذي جمع ثروته في حمى بوتين قد لا يكون أكثر من شخصية عابرة في هذا المشهد. لكن البذرة زُرعت من حيث لم يخطر على بال أحد، عبر مؤامرة أبطالها مجموعة من المجرمين باعوا غطرستهم بفتات حرية يحاولون الآن استغلالها. ليتها روسيا تستخلص العبرة من هذه الأزمة، وتذهب إلى طاولة المفاوضات التي يطالب بها العالم بأسره، مع بوتين أو دونه، وتعيد إلى الأوكرانيين حقهم في العيش بسلام على أرضهم.