د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

ذكريات ثورة 30 يونيو 2013

استمع إلى المقالة

الحكم الشائع عن المصريين بأنهم لا يحبون الثورة؛ لأنهم راقدون على ضفاف نهر خالد ينهلون ويزرعون من مائه، ويمشون على أرضه وسط مناخ معتدل، وفي العموم فإنهم يقبلون ما تأتي به الطبيعة سواء كان ذلك في حصاد المحصول أو مطالب الحكام. ثلاثة آلاف عام مرت منذ انتهاء العصور الفرعونية، تعاقب فيها الغزاة والفاتحون، واعتمد معظمهم على ما لدى ذلك الفلاح الأصيل من موهبة حساب الشهور والمواسم، وأحوال الطقس؛ ما يجعل إنتاجه يعطي الإمبراطورية الرومانية قمحاً، أما صلاح الدين الأيوبي فقد كان يطمئن على أن جيوشه في مواجهة الصليبيين لن تموت جوعاً. مطلع القرن التاسع عشر شهد يقظة بدأت بثورة قادها عمر مكرم لكي يعطي الحكم إلى محمد علي الذي كان محض والٍ عثماني آخر. ثورة عرابي كانت أكثر تعقيداً من سابقتهاً، فمن ناحية كانت دليلاً على أن الأمة المصرية وُلدت من جديد، حيث نتجت عن «الحداثة» طبقات اجتماعية، وفرز بين المصريين والأجانب، ومولد نخبة سياسية واقتصادية واجتماعية متعددة الأبعاد، وبات هناك من «المثقفين» مَن يعبّر عنها مثل عبد الله النديم وآخرين. ثورة 1919 شهدت مولد الدولة المصرية كما نعرفها اليوم حتى ولو كانت في بدايتها «مملكة»، وما انتقلت إليه «جمهورية». في الحالتين كان العالم قد بات في القرن العشرين أكثر تعقيداً مما سبق، ومعه مصر باتت الأكثر حداثة في إقليم كان لا يزال يغط في عصور قديمة. ثورة 23 يوليو (تموز) 1952 لم تكن ثورة بالمعنى الشامل للكلمة، كانت «حركة مباركة» قام بها الجيش لكي يسعى من أجل جلاء الإنجليز الذين طال بقاؤهم في مصر أكثر مما ينبغي. أصبحت الحركة ثورةً، وتمددت أجنحتها في الإقليم العربي في الخارج، بينما كانت تبحث عن التصنيع والزراعة الحديثة في الداخل. بعدت فكرة الثورة، ولم تبقَ منها إلا حركات احتجاجية شاهدت أولاها مباشرة بعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967 عندما خرج طلبة الجامعة أكثر من مرة يطالبون بالحرب ضد إسرائيل. وحدثت ثورة أخرى من أجل الخبز في 18 و19 يناير (كانون الثاني) 1977 وانتهت باغتيال «الإخوان» الرئيس السادات لأنه أقام صلحاً لتحرير الأراضي المصرية!

سجل الثورات في مصر لم يكن شحيحاً إذاً، ولكن طول عمر الدولة بين ألفيات عدة نثر مناسبة الخروج الجماهيري الكبير حتى بدا الاستقرار قانوناً أبدياً؛ وحدث ذلك على الأقل حتى جاءت موجة ثورية في 25 يناير 2011، كانت كما لو كانت بتعبيرات العصر الحالي «تسونامي» يجعل ما أتى بعده يختلف كثيراً عما كان قبله. الارتجاج كان كبيراً، ولا يزال، ولكنه كان كافياً لكي يجعل مصر تنظر إلى مستقبلها أكثر كثيراً مما كانت تلتفت إلى ماضيها. ورث الإخوان المسلمون الثورة، وجاء الشيخ يوسف القرضاوي لكي يستقر في ميدان التحرير بالقاهرة، مستدعياً مشهد آية الله روح الله الخميني، ساعة وصوله إلى طهران. لم يكن في مسيرة مجلس الإرشاد الذي يشابه «البوليتبرو» في الأحزاب الشيوعية ومثيلتها في الأحزاب الفاشية من واجبات السمع والطاعة ما يستحق لا الرصد ولا التحليل، اللهم إلا عودة الذاكرة إلى برنامج «الإخوان» في عام 2007 الذي كان يريد لثورة مصر أن تكون مثل تلك الإيرانية. تفاصيل ما جرى بعد ذلك لا تسعه المساحة، ويكفينا القول إن المشهد العام لم يكن مرضياً للشعب المصري ولا للقوات المسلحة المصرية، وما بينهما من روابط وثيقة فيها من العلاقات العضوية هوية مصرية نقية وخالصة.

العام الذي حكم فيه «الإخوان» كان مثيراً للغاية بعد انكشاف الاتجاه الذي يسيرون فيه، وتحلّيهم بكمية هائلة من عدم الكفاءة أو القدرة على الحكم. وعندما ظهرت حركة «تمرد» تجمع توقيعات المصريين كما فعل أجدادهم في جمع التوكيلات لسعد باشا زغلول، وتطالب بعقد انتخابات رئاسية مبكرة، جمعني عشاء مع السفير محمد رفاعة الطهطاوي وكان أميناً عاماً لرئاسة الجمهورية، وسألته هل يستجيبون للمطلب الشعبي، فقال إنهم - يقصد «الإخوان» - لا يستمعون لأحد. في يوم 19 يونيو اتصل بي السفير عمر عامر المتحدث الرسمي باسم رئاسة الدولة، طالباً مني مقابلته في القصر الجمهوري، وعندما ذهبت جاء بشخص يدعى أيمن ياسر رئيس مكتب العلاقات الخارجية، الذي سأل عن رأيي في الأحداث الجارية؛ ووقتها قلت إن هناك 3 مسارات: «الذهبي» وهو أن تُجرى انتخابات رئاسية جديدة، و«الفضي»، وهو أن يُجرى تغيير شامل في الوزارة ويحل محلها وزارة جبهة وطنية شاملة، و«الخشبي» وهو أن تبقى الأمور على حالها، ووقتها سوف تأخذ الطبيعة مجراها، أي الثورة. في 23 يونيو كانت لديّ محاضرة متفق عليها في الندوة التثقيفية الخامسة للقوات المسلحة عن التحديات التي تواجه الأمن القومي المصري؛ وهي محاضرة وصفها أحد الحاضرين بأنها جعلت اليوم أسود نتيجة ما تتعرض له مصر من أخطار، على رأسها تهديد «الإخوان».

كان ذلك هو اليوم الذي قابلت فيه الرئيس عبد الفتاح السيسي للمرة الأولى، وكان هو الذي تحدث في الندوة، معلناً أن القوات المسلحة لن تسمح لأحد بالمساس بشعرة واحدة من رأس الشعب المصري. تفاصيل ما جرى بعدها كان لقاء القوى الوطنية في 3 يوليو، ووضع خريطة للطريق، وبعد ذلك تفويض الشعب المصري لوزير الدفاع والقوات المسلحة بالقضاء على الفوضى، وفض الاعتصام في «رابعة». بدأت مصر هذه المرة في طريق آخر كانت الثورة مسلحة فيه بمشروع وطني كبير للبناء والتعمير والتنمية المستدامة، ولم تكن فيه مصر وحدها، وإنما قاسمها فيه أشقاء عرب فعلوا ما فعلوه تماماً كما حدث قبل عقود عندما خاضوا مع مصر حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 بالسلاح والنفط والعون.