خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

متى صار الغدر بطولة؟

استمع إلى المقالة

استيقظت البشرية يوماً فوجدت أن ماحياً محا من ذهنها كلمة «ثمن» بكل مرادفاتها. ماذا سيحدث؟ ستعود إلى عصر ما قبل المقايضة، أي ما قبل الحضارة، وقدرة البشر على خلق فرص التعاون. سأترك لكم هذه الفكرة؛ مَن أراد أن يتسلى بها مع نفسه فليفعل، ومن أراد أن يتجاهلها ويأتي معنا إلى مساجدنا وسينماتنا وصحفنا فأهلاً وسهلاً.

عشت طفولتي الواعية ومراهقتي في أسيوط الثمانينات، عاصمة جنوب مصر التي كانت في تلك الفترة مرتعاً للجماعات الإسلامجية. ميكروفونات مساجدها تعيش في آذاننا، تدعو على أصحاب الأديان الأخرى أن يحصيهم الله عدداً، وأن يهلكهم بدداً، وألا يغادر منهم أحداً.

كلام... نقول في مصر، ليس عليه جمرك، أي ليس له ثمن... أم له؟

حتى صريخ شخص بالكلام في الصحراء له ثمن. سيجف حلقه أسرع. وقد يقصر عمره دقائق عما لو ظل صامتاً محتفظاً بهدوئه.

إنما الصريخ بهذا الكلام المنسوب إلى دين يؤمن به الناس له ثمن أغلى. لا أتحدث عن قيمة، أتحدث عن ثمن يمكن تحديده برقم. عن أشخاص يتأثرون فيضربون السياحة. يفقد أناس وظائفهم، ورواتبهم. يتوقف الواحد منهم عن شراء بنود البقالة التي يرفه بها عن نفسه، وعن تجديد حذائه، وعن إلحاق أبنائه بمدارس أفضل... ثمن تدفعه الدائرة كلها. ثم إن المجتمع، بسبب هذه الكلمات، يستنزف طاقة في التناحر بدل التعاون. ثمن. ويصَدر صورة ذهنية تجعل المستثمرين يحجمون عن المخاطرة بأموالهم فيه. ثمن... قطاعات إنتاجية كالسينما والفنون تنهار... ثمن.

يستطيع شخص غريب زار القاهرة في الأربعينات ثم امتد به الزمن لكي يعود إليها في التسعينات إدراك فارق الثمن. كم يدفع لكي يعيش في تلك وكم يدفع لكي يعيش في هذه. تماماً كما يستطيع إنسان تحديد الفارق في الثمن بين سيارة «لادا» وأخرى «مرسيدس». أما ابن المجتمع الذي جرت عليه التغيرات فهو كائن حي، يتكون وعيه حسب ما تفتحت عيناه عليه. لا يتخيل عالماً غير الذي يبصره. حتى لو رأى العوالم الأخرى في الأفلام؛ فلن يفهم مفردات ثقافية لم يعايشها، ولا يستطيع أن يقيم الثمن الذي تستحقه. يعتقد أن سلعته «اللادا» لها نفس سعر «المرسيدس» في سوق العالم. ويناقش الآخرين بهذا المنطق.

أي سلعة في سوق ثمنها معروف، يدفعه مَن يريد أن يمتلكها. يتساوى في هذا القانون كيلو الطماطم، والطائرة. إلا سلعة الأفكار. هذه السلعة الوحيدة التي يمكن لمعدمين شراؤها، بينما يدفع آخرون عنهم الثمن. أفكار الدين السياسي تدين بقدر كبير من جاذبيتها لهذا السبب. حتى مَن يعيش على الكفاف يستطيع امتلاكها، ويمكن أن يربح منها نفوذاً وسُلطة. بل يستطيع أن يلغي بها القوة الشرائية للثراء في محيطه؛ فيجبر الأكثر منه ثراء أن يعيش معيشة الفقراء، اللهم إلا في قائمة محدودة من المباحات. محدودة إلى حد أنها لا تشمل حفلاً غنائياً، ولا لهواً على شاطئ، ولا فيلماً ولا مسرحاً ولا فستاناً ولا جلسة سمر ولا كوافير ولا حتى عطراً.

المفارقة هنا أن محيط الفقراء ومجال نفوذهم لن يتخطى الطبقة الوسطى. الطبقة الثرية ثراء فاحشاً ستظل قادرة دائماً على الهرب، على تكوين تجمعات مغلقة، على تهريب المتع من ممرات لا تصل إليها رقابة حارس العمارة، والجار الريفي، وصاحب البقالة، وعسكري المرور. سيكلفها هذا ثمناً أغلى، وهي قادرة على دفعه. إنما هذا التضخم سيرفع ثمن المتعة إلى فوق قدرة الطبقة المتوسطة، ولن يكون أمامها من سبيل للتفاعل إلا واحداً من اثنين؛ الأول أن تتبنى أفكار خانقيها وتتخلى عن المتع كلياً، على نظام «بيدي لا بيد عمرو»، فتتحول إلى طبقة فقيرة فكرياً واجتماعياً، حتى وإن كانت وسطى اقتصادياً، كشخص صار نباتياً لأنه لا يملك ثمن اللحم. الثاني أن تساوم، وستخرج غالباً بقائمة من المسموحات المشروطة؛ شواطئ ولكن مُراقَبة، جامعة ولكن مفصولة، سينما ولكن نظيفة، مسرح ولكن ملتزم، كتابة ولكن مقصوصة. يتقبلها الجيل الأول متبرماً، عالماً أنه مضطر، ثم تتحول في الجيل التالي إلى صفة أصلية فيه، سيسميها «ثوابتنا» أو «عاداتنا».

سينتج هذا الجيل الذي نسي أنه رهين نسخته الكلامية الخاصة. وسننشغل معه هو أيضا بالجدال حولها. لكننا سنتجاهل جوهر الأزمة؛ أننا فقدنا مَلَكة التفكير في الثمن... أن ثقافة الكلام، بشقيها الديني ثم اليساري، حَرَفتنا بعيداً عن المفردة التي بنت الحضارة. المفردة التي عبرت عن قيمة الشيء في واقعه العملي، في لحظته المعينة.

سترى مُخرِجاً، أو كاتباً درامياً يمجد الحياة في الحارة المصرية. سيقول لك إنها أفضل من الحياة في «كمباوند» راقٍ. لكنه سيختار في الواقع أن يعيش في «كمباوند»، وسيدفع في مسكنه ثمناً كان يمكنه أن يعيش في الحارة بعُشره. لأن الثمن هو الحقيقة. لن تجد هذا الانفصام في الدراما الأميركية. ربما تجد مثيلاً له في سينما اليسار البريطاني التي لا يشاهدها أحد. إنما عندنا، هذا عَرَض لمرض خطير.

المرض الخطير يمتد أيضاً إلى السياسة، فيطلق كلاماً بلا مسؤولية، كلاماً لا يلتفت إلى فكرة الثمن. نخبة تمجد الحرب ولا تفكر في الثمن. تُحقِّر السلام ولا تفكر في الثمن. لا تدرك ثمن مصافحة الأيدي بين الخصوم، والتعاهد على الأمان. تتحدث عن الغدر، تسميه بطولة، لأنها لا تفكر في الثمن.

إدراك الثمن جعل البشر يتبادلون البضائع، لخير الطرفين، ويحترمون العهد، لخير الطرفين. هذه البراغماتية صنعت أخلاقنا الحميدة. جرَّمنا القتل لأن التجريم يقلل احتمال أن نُقتل، وجرمنا السرقة لكي نقلل احتمال أن نُسرق. لقد أدركنا الثمن، فحسنّا أخلاقنا، وبنينا الحضارة، إن أطلقنا الكلام بلا تفكير في الثمن نهدمها.