داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

اليابان... قريبة من العناقيد بعيدة عن الأشواك

استمع إلى المقالة

لم تدخل اليابان حرباً بعد الحرب العالمية الثانية. لكنها أسهمت بشكل سلمي مع الولايات المتحدة وبريطانيا في حرب احتلال العراق عام 2003. والآن السياسة اليابانية تدير أنظارها في جميع الاتجاهات لأنها تخشى روسيا، وهي تفتح عيونها على تجارب صواريخ كوريا الشمالية، وقلبها يدق لأي تجاوزات سلمية بسبب جزيرة تايوان.

كل شيء في كوكب اليابان مختلف؛ فالأجهزة الإدارية في الدولة هي التي تتبنى السياسة الخارجية المحايدة متجنبة «قفص» البيروقراطية والنظم القديمة. ومرَّت عقود من الإصلاح الإداري قبل أن يتم التركيز على المحور السياسي باحترافية عالية واستقلالية في رسم سياسات «الدولة» وليس «الإدارة» فقط.

يقول الكاتب الياباني هيديناكي إنه لم يعد من الحكمة التقليدية أن يسيطر «الزعماء» السياسيون على عملية صنع السياسات لوحدهم؛ فهذا تاريخ مضى. الآن مع ذروة النمو الاقتصادي الياباني والتحديات الخارجية، يرى الخبراء اليابانيون أن قوة صنع السياسة وبراعة النخبة من الإداريين المحترفين وراء التطور السريع.

معروف أن طوكيو أمامها أزمات سياسية داخلية وخارجية، وعليها أن تتجاوز عُقَد الحرب العالمية الثانية وتنسجم مع محيطيها البحري والبري قريبة من عناقيد السلام بعيدة عن أشواك الحرب.

مع التنبيه إلى أن «البيروقراطية» بالمفهوم الياباني ليست «البيروقراطية» المعقدة بمفهومنا.

فمن مميزات المدير الياباني أو رئيس الشركة أنه إذا أدت سياسته إلى فشل الشركة أو خسارتها، أو إذا ألحق أضراراً بها بسبب فضيحة مالية أو شخصية، فإنه يمتلك الشجاعة الكافية التي تؤهله لأن يقف أمام منتسبي الشركة ويعترف بتقصيره علناً.

وهو لا يطلب العفو والمغفرة ونسيان الماضي، ولا يبحث عن أعذار لتسويغ الفشل، ولا يفتش عن شماعة أو كبش فداء، لكنه يحترم نفسه والآخرين فيتحمل المسؤولية كاملة ويقدم استقالته على الفور.

والمدير الياباني ليس مديراً من وراء الكواليس أو الكوابيس، لكنه جزء من النشاط المقرر للدائرة أو الشركة أو المؤسسة، فالسيد «توياما» وهو مدير أحد مصانع السيارات اليابانية يبدأ يومه بقراءة التقارير الإدارية والفنية من النوبة الليلية للعمل عن أي مشاكل في السيطرة النوعية على الإنتاج، ثم يعقد اجتماعاً مع مساعديه من فريق السيطرة لمناقشة التقارير واقتراح الحلول وإبداء الملاحظات.

وجرت العادة في كثير من الشركات اليابانية أن يختار المنتسبون في كل أسبوع شعاراً معيناً يعملون في ضوئه مثل «إنتاج أكبر من خلال الجهد الجماعي»، أو «سمعة الشركة تهمنا جميعاً»، وخلف هذه الولاءات القوية للجماعة تكمن أسرار النجاح الصناعي الذي تفتخر اليابان به.

فالمدير الياباني أو الوزير أو السفير يقضي كثيراً من يوم عمله يتابع ويراقب ويرشد ويسأل ويشكر. وهو يبتسم طوال الوقت لأنه يعد الابتسام دليلاً على الثقة في النفس. والدنيا تضحك كثيراً لليابانيين، ويا ليتها تضحك لنا، لأنهم يعرفون قيمة الحياة وقيمة العمل وقيمة الوقت.

ورئيس العمل ليس رئيساً فقط لمنتسبيه، لكنه صديق لكل منهم ويتعاملون معه كأنه أب أو أخ كبير. وهم يطلبون توجيهاته في العمل مثلما يطلبون مشورته في قضاياهم الشخصية وعلاقاتهم العائلية. وهو لا يمانع في أن يكون وسيطاً لترتيب إجراءات زواج أحد منتسبيه من زميلة له في المصنع أو من خارج المصنع. وهو ضيف الشرف في حفلة الزواج، وأول من يسمع عن أي خلاف عائلي بين الزوجين بعد انتهاء شهر العسل!

وحين تعلن مذيعة الإذاعة الداخلية في الشركة عن موعد تناول وجبة الغداء، فإن المدير لا يتوجه إلى قاعة خاصة بالمديرين، لكنه يذهب إلى القاعة الكبرى، حيث يجلس جنباً إلى جنب مع منتسبيه يأكل مما يأكلون ويشرب مما يشربون. وبعد العمل تستمر العلاقات الشخصية في المطاعم الشعبية أو حتى في منزل المدير، حيث تجري مناقشة أحدث وسائل السيطرة النوعية على مائدة يابانية تقليدية يتصدرها الرز والسمك وشوربة الأعشاب البحرية.

وبالنسبة لليابانيين فإن لعلاقة أي فرد منهم مع الجماعة أهمية قصوى في حياته الخاصة والعائلية. وعلى أرضية الحقل أو المصنع أو المؤسسة يترجم هذا الشعور الشخصي إلى رغبة شديدة في أداء أعلى مستويات الإنتاج والجودة الممكنة لرفع اسم بلاده عالياً أولاً، ولإرضاء رئيسه وزملائه في العمل ثانياً، ولإرضاء نفسه وأسرته ثالثاً. فالبيت والعمل والوطن كيان واحد لا يعرف الازدواجية أو الباطنية أو الوجهين، أو الكذب والنفاق وتزييف المشاعر والابتسامات الصفراء.

من لا يعرف اليابانيين جيداً، يظن أن الشعب الياباني شعب أخرس! لكن اليابانيين غير مغرمين بالكلام والثرثرة، على عكس الحال عند غيرهم من الأقوام الأخرى التي تعتقد أن الكلام والفلسفة متعة من متع الحياة التي ينبغي الاستمتاع بها إلى آخر نفس.

وعلى الرغم من انفتاح اليابان على الغرب وتأثرها بكثير من إيقاعات الحياة فيه، فإنها لا تزال تحمل كثيراً من التقديس لتراثها الحضاري والاجتماعي والثقافي.

ومن النادر أن تخلو برامج التلفزيون هناك من تمثيليات وفعاليات يظهر فيها الممثلون بالملابس التقليدية اليابانية، حيث يستذكرون حقباً مختلفة من حياة الشعب الياباني بما فيها حياته المعاصرة. ومن الأمثلة الحية على تمسك اليابانيين بشخصيتهم الوطنية «المسرح الياباني». فهذا المسرح لم يتأثر إلا بنحو محدود بأفكار المسرح الغربي، ولا تعرف خشبة المسرح الياباني إلا نادراً ما يُعرف بالمسرح التجريبي.

إنه خليط بارع من العادات الاجتماعية اليابانية التقليدية متمازجة مع التقنية المتطورة التي شكلت اليابان الحديثة. التجربة الفريدة التي تستحق الدراسة والاستفادة بعيداً عن التجارب الغربية التي علمت البعض أن يكون لا هو هنا ولا هو هناك.