ماريو فارغاس يوسا
روائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».
TT

طوابير الذل

استمع إلى المقالة

مرة أخرى، وكما جرت العادة عندما ترفع السلطات المكسيكية إجراءات الحظر على العبور إلى الولايات المتحدة، شهدت الحدود بين البلدين حوادث مؤلمة بسبب من تدافع آلاف الأمريكيين اللاتينيين على المعابر التي تعهد حمايتها في مثل هذه الحالات إلى عناصر من القوات المسلحة. وهي حوادث تتكرر باستمرار، ومن الأرجح أنها إلى ازدياد في هذه الظروف العصيبة التي تجتازها أمريكا اللاتينية. مئات الآلاف من الأمريكيين اللاتينيين يطمحون إلى فرصة عمل في الولايات المتحدة، لكنهم يفتقرون إلى التأشيرات اللازمة التي من المستبعد جداً أن يحصلوا عليها في القريب المنظور؛ لأن البلدان التي يريدون الانتقال إليها لم تعد راغبة في استقبالهم، والتوتر على الحدود يتجه نحو المزيد من التوتر الذي سيؤدي حتماً إلى المزيد من الحوادث.

تابعنا على شاشات التلفزيون المشاهد المؤلمة لعائلات بأسرها تحاول عبور الحدود، لكن الواقع هو أن الولايات المتحدة ليست قادرة على أن تستوعب دفعة واحدة كل الذين يرغبون في الانتقال إليها، علماً أنها تبذل مجهوداً كبيراً منذ سنوات في هذا المضمار. فالكوبيون مثلاً، لهم أفضلية في طلب اللجوء والحصول على فرصة عمل، وكذلك مواطنو البلدان التي تعرّضت لاضطرابات عنيفة أو تعيش تحت نظام قمعي. لكن من أسف، ليس بإمكان أي بلد أن يفتح حدوده بلا ضوابط أمام المهاجرين، مهما بلغت مساحته وتوفرت لديه فرص العمل؛ لأن ذلك يحمل في طيّاته بذور التوتر الاجتماعي والسياسي الأكيد. وأولئك الذين يتدافعون نحو تلك الحدود ويتكدسون على امتدادها، يواجهون اليوم إحباط العجز عن تحقيق الآمال التي يسعون وراءها.

لكن، ما الذي يطمح إليه الذين يسعون إلى دخول الولايات المتحدة؟ قبل كل شيء، يطمحون إلى الأمن الذي يفتقرون إليه في بلدانهم. ثم وراء إمكانات تعليم أبنائهم في مدارس وجامعات مرموقة تفتح لهم أبواب مستقبل أفضل. واللافت، أن كثيرين من الذين يريدون عبور هذه الحدود، صوّتوا في بلدانهم لصالح أنظمة صادرت الأملاك الخاصة وتظاهروا تأييداً لها كلما أقدمت على سياسات وتدابير تسببت في المزيد من التضخم والبطالة والبؤس. إن في ذلك واحدة من التناقضات العديدة التي تميـّز أمريكا اللاتينية: لماذا يسعون في الولايات المتحدة وراء ما يرفضونه في بلدانهم؟ إنه تناقض صارخ، ومؤسف في آن معاً. أليس من الأفضل؛ نظراً للصعوبات الجمّة التي تعترض دخولهم إلى الولايات المتحدة والبلدان المتطورة والاستقرار فيها، أن يدافعوا عن النموذج الليبرالي الذي يشجّع الاستثمار والمبادرة الخاصة في بلدانهم، عوضاً عن رفضه ومحاربته ثم السعي وراءه على حدود الدول التي لا تريد استقبالهم.

هذا هو أحد الألغاز التي تميّز أمريكا اللاتينية: الإصرار على تأييد الأفكار والأنظمة التي تحكم عليهم بالهجرة إلى بلدان أخرى يبحثون فيها عن بداية جديدة من غير ضمانات في تحقيق أهدافهم. ولا شك في أنه من غير حماس الطبقة العاملة، والعديد من أبناء الطبقة المتوسطة، واندفاعهم وراء الأنظمة الشعبوية، ما كانت أمريكا اللاتينية قد وصلت إلى ما هي عليه اليوم، أي إلى مرحلة تتعاقب فيها عليها أنظمة لم تنجح في أي مكان آخر من العالم، بل دفعت البلدان التي حكمتها إلى فشل اقتصادي غبّ الآخر. أوضح مثال على ذلك هي فنزويلا التي كان كل الأمريكيين اللاتينيين يقصدونها وراء فرص العمل المتاحة بوفرة عندما كان يطلق عليها «فنزويلا السعودية»، في حين هي اليوم، بعد قرارات التأميم التي اتخذتها، أصبحت في حال من الانهيار التام تسبب في نزوح ما يزيد على سبعة ملايين مواطن لا يجدون لهم فرصة عمل راحوا يبحثون عنها في بلد آخر. أضرب مثال فنزويلا لأنها الحالة الأكثر مأساوية، لكن شبيهاتها كثيرات في المنطقة، حتى أن كولومبيا التي كانت قدوة على الطريق القويمة تسير اليوم في الاتجاه المعاكس مع بيترو.

هذه المفارقة التي تدفع الأمريكيين اللاتينيين إلى السعي يائسين للاستقرار في بلدان «متفوقة» لأن فيها يجدون فرص العمل وينعمون بالأمان القانوني السائد، تتكرر مرة تلو المرة منذ عقود طويلة. والمشكلة، بكل بساطة، سيبقى حلها مستعصياً طالما هم يصرّون على انتخاب الحكومات التي تطردهم من ديارهم بسبب من السياسات المدمرة التي تنهجها. أما حلّها فهو بسيط جداً؛ إذ يكفي أن تتوفر الظروف التي لا يضطر فيها سكان أمريكا اللاتينية إلى الهجرة والنزوح؛ لأن ما يسعون إليه يكون متاحاً لهم في بلدانهم لو أرادوا اعتناقه وتطبيقه. وليس من المنطقي ألا يراهنوا في بلدانهم على ما يتطلعون إليه في الخارج، أي تلك الأنظمة الاقتصادية التي تقوم على العمل، والتوفير، والاستثمار، كما هو الحال في الولايات المتحدة التي يريدون الاستقرار فيها؛ سعياً للأمان والضمانات على مستقبلهم. ومن الحماقة أن يرفضوا في بلدانهم النموذج الاجتماعي نفسه الذي يلهثون وراءه في الخارج بكثير من التضحيات. لكن أخشى، في جملة ما أخشاه، أن هذا التناقض سيواصل دفع المهاجرين للاحتشاد على حدود البلدان الصناعية المتطورة؛ لأن ما يسمّى «العالم الثالث» ما زال يفشل في تحديد وجهة صائبة لمصيره. والحق يقال، إن المشهد اليوم في أمريكا اللاتينية يبعث على الخيبة والكآبة لأنه، باستثناء أوروغواي وإكوادور (حيث يحاول اليسار الموالي للرئيس الأسبق رافايل كورّيا إسقاط حكومة غيّرمو لاسّو) وجمهورية الدومينيكان، اختار المواطنون أنظمة اجتماعية محكومة بالفشل تدفع أبناءها إلى الهجرة والالتحاق بطوابير الذل على الحدود التي يحرسها العسكر وتطوقها الأسلاك الشائكة.

هذا الواقع المؤلم ليس سوى عيّنة من التناقضات الكثيرة التي تعيشها أمريكا اللاتينية هذه الأيام. لكن ما هي الأمثلة التي تحاول بلداننا تقليدها؟ إنها الدول التي فشلت بصورة ممنهجة بعد أن لجأت إلى التأميم، والإنفاق بلا ضوابط والتدابير الحمائية. حتى الدول الاسكندنافية التي كانت مثالاً يحتذى في الماضي اضطرت إلى إعادة النظر في سياساتها وتراجعت عن التدابير التي أخفقت في تحقيق الأهداف المنشودة. وطالما أن أمريكا اللاتينية لم تدرك ذلك ستواصل مسارها المحتوم نحو الانحطاط الذي يدفع ثرواتها وكفاءاتها إلى الخارج كما حصل في فنزويلا التي نزحت نخبها إلى مدريد، حيث تنعم اليوم بالحرية والأمان على غرار الكثيرين من أبناء أمريكا اللاتينية.

منذ سنوات بدا أن أمريكا اللاتينية قد وجدت ضالتها على سكة التنمية، وبدأت رؤوس الأموال في التدفق نحو بلدان المنطقة الحافلة بالإمكانات. لكن ذات يوم تبخّر كل ذلك، وحلّت مكانه الأنظمة اليسارية التي ألحقت الخراب بالعديد من البلدان، وتركت أخرى على عتبات العوز والفقر. هل ما زال هناك أمل في أن تتغيّر الأمور؟ لا بد للدول التي أخطأت في اختيار أنظمتها الاجتماعية أن تندم على ما فعلت وتعيد النظر في سياساتها وتكيفها وفقاً للواقع الذي يتبدّى بوضوح أمام الجميع.

لأول مرة في تاريخها أصبحت بلداننا اليوم قادرة على المفاضلة بين الفقر والرفاه. ولم يعد مقبولاً في هذا العصر أن نصرّ على الخطأ كما فعلت العديد من البلدان النامية. وهذه الطوابير الطويلة على أبواب البلدان الغنية مثل الولايات المتحدة هي اكبر دليل على فداحة الخطأ، وعبرة لمن يريد أن يعتبر.