داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

شركات تبيع الحياة وتشتري الموت

استمع إلى المقالة

قبل أيام من بدء العدوان الأميركي – البريطاني على العراق في عام 2003، أطلق الرئيس العراقي الراحل صدام حسين سراح السجناء العراقيين جميعاً في السجون والمعتقلات العراقية كلها، وبينها سجن «أبو غريب»، الذي يقع على بعد نصف ساعة من بغداد تحت شعار: «تبييض السجون» أي إخلائها من السجناء العراقيين وغير العراقيين جميعاً.

وكنت قد زرت هذا السجن قبيل الحرب الأميركية بأشهر قليلة لمقابلة الصحافي العراقي المتميز الدكتور هاشم حسن بصفتي النقابية. وتحدثت مع مدير السجن لتقديم بعض الخدمات للزميل المسجون مثل تلفزيون صغير وسرير للنوم، وتسهيل الزيارات العائلية له، خاصة أنه رجل نظيف اليد والقلم. ووافق المدير على كل الطلبات دون تردد لأن عدي النجل الأكبر للرئيس العراقي صدام حسين كان نقيب الصحافيين، وله تأثيرات على السجون رغم أنني لم أستأذنه في الزيارة الشخصية، وحين طلبت منه بعد زيارتي التوسط للزميل الأستاذ الجامعي لإطلاق سراحه، كتب عدي بحبر أحمر على الطلب: «لا تلعب بالنار»! لكن الأحداث السياسية تسارعت، وكان العراق على وشك الدخول في حرب ثالثة خلال الفترة من 1980 ضد إيران و1990 ضد الكويت و2003 ضد الولايات المتحدة.

عرض التلفزيون العراقي والقنوات الفضائية العربية والأجنبية آنذاك فيديوهات عن فتح أبواب السجون في بغداد والمحافظات الأخرى، وتسلق الجدران من قبل السجناء وهم يحملون حقائبهم وبطانياتهم وصور صدام... كان البعض يظن أن إطلاق سراح السجناء كان الخطوة الأولى لاستخدامهم في الدفاع عن بغداد ضد القوات الأميركية والبريطانية، ولكن الحقيقة أنهم ذهبوا إلى بيوتهم وعوائلهم، وكان أغلبهم من السجناء العاديين الذين لا علاقة لهم بالسياسة!

ولم يلبث السجن فارغاً إلا أسبوعاً واحداً، ثم بدأت قوات الاحتلال الأميركي الغاشم بزج المئات في المعتقلات من السياسيين والعلماء بتهمة أسلحة الدمار الشامل، التي ثبت أنها أكبر كذبة في التاريخ الحديث، ألفها المعارض الراحل الدكتور أحمد الجلبي وأفراد من المعارضة الموالون لإيران، وتبناها وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول، وردد نشيدها الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، حتى صدقوا الأكذوبة، ثم اكتشفوا أنها كانت فعلاً ليست كذبة فقط، وإنما «عاراً» كما قال كولن باول في مذكراته.

ولما كان الشيء بالشيء يذكر، فقد تذكرت سجن «أبو غريب» حين قرأت ما نشرته صحيفة «الشرق الأوسط» قبل أيام منسوباً للمنظمة العسكرية الروسية (فاغنر) غير الرسمية، على لسان مؤسسها يفغيني بريغوجين من أن هذا التنظيم المسلح خسر 10 آلاف من بين 50 ألف شخص جندتهم «فاغنر» من السجون الروسية، وقد قُتلوا في أوكرانيا بنيران المواجهة في معركة «باخموت» الدامية. وهذه أول مرة يكشف فيها النقاب عن تجنيد سجناء روس بالسخرة الحربية من قبل هذا التنظيم العسكري الموالي للرئيس الروسي بوتين، مقابل إطلاق سراحهم بعد انتهاء الحرب! وهو رقم خسائر كبير في الأرواح تصل نسبته إلى 20 في المائة.

ومنظمة «فاغنر» تشبه منظمة موالية للجيش الأميركي عاثت في العراق في الأشهر الأولى من الاحتلال اغتيالاً في الأبرياء من الأطفال والنساء والرجال بلا رحمة. وانتقلت هذه العصابات من العراق إلى ليبيا وسوريا واليمن. ولها فرع في الأراضي الفلسطينية المحتلة تحت تسمية «شرطة المستوطنين».

ولرواج السلعة بسبب الحروب الدولية أو النزاعات الأهلية، فقد تم تغيير اسم الشركة السابقة إلى شركة «أكاديمي»، ومقرها ولاية كارولاينا الشمالية، لتلافي المحاكمات بسبب ما ارتكبته في بغداد والفلوجة وسجن «أبو غريب». وكانت الشركة السابقة التي رافقت الجيش الأميركي إلى العراق قد وافقت على دعم القوات الأميركية مقابل خضوع جنودها للحصانة من الملاحقات القضائية.

منذ فترة تقاتل مجاميع من منظمة «فاغنر» في ثلاث قارات هي آسيا (في سوريا) وأوروبا (في أوكرانيا) وأفريقيا (في ليبيا والسودان ومالي ومدغشقر)، وفي معظمها تتولى توفير الدعم والأمن لشركات التعدين الروسية المتخصصة في البحث عن الذهب. وهي مزودة بأسلحة ثقيلة، وقال الأميركيون إن منظمة «فاغنر» زوّدت قوات «الردع السريع» في السودان بصواريخ أرض - جو عن طريق جمهورية مالي. وذكرت إذاعة صوت ألمانيا «دويتشه فيله» أن روسيا ليست الدولة الوحيدة في العالم التي تمتلك شركات عسكرية خاصة، بل يمتد الأمر إلى دول جنوب أفريقيا والعراق وكولومبيا والولايات المتحدة بالطبع، وفي العراق يتولى «الحرس الثوري» و«فيلق القدس» وهما إيرانيان، وبعض الميليشيات الموالية لإيران التدخل في الشؤون الأمنية الداخلية للعراق في حالات المظاهرات والصدامات بين الجيش والمنظمات الشعبية والطلابية لشكوك السلطات العراقية بالقيادات العسكرية في ظروف مختلفة.

الذي قادنا إلى كتابة هذا المقال هو: هل يحق للدول أن ترغم السجناء على خوض حروب مقابل تخفيف الأحكام عليهم، كما قرأنا في مجموعة «فاغنر» الروسية؟ لقد دافع رئيس المجموعة الروسية عن فكرة إرسال سجناء للقتال في أوكرانيا وقال: «إن على هؤلاء الذين لا يرغبون إرسال السجناء إلى القتال، أن يرسلوا أبناءهم بدلاً من ذلك»!

وقال رئيس المجموعة في تجمع آخر للسجناء: «إنكم ستنالون الحرية إذا خدمتم مدة ستة أشهر بين صفوف مجموعة (فاغنر)».

وفي الحالات النفسية المماثلة داخل السجون والأسلاك والأحكام القاسية فإنه من الصعب المفاضلة بين ساحة كرة السلة داخل السجن، وساحات الحروب في دولة بعيدة. ولا يسمح القانون الروسي بتحرير السجناء مقابل أداء خدمة عسكرية سواء بين صفوف الجيش أو المرتزقة، إلا أن صاحب مجموعة «فاغنر»، وهو صديق الرئيس الروسي بوتين، يوضح ما قاله: «إن أحداً لن يعود إلى القضبان إذا خدم بين صفوف فاغنر، إذا خدمت ستة أشهر فأنت حر، أما إذا هربت من الخدمة فستواجه الإعدام ميدانياً».