مفجعة تلك القصص التي تسردها الكاتبة والناقدة الإنجليزية، أوليفيا لاينغ، في كتابها «الرحلة إلى إيك سبريتغ... عن الكتّاب والشرب»- ترجمة عباس المفرجي، دار المدى، 2023-. والكتّاب المعنيون هنا هم من أبرز كتّاب القرن العشرين: أرنست همنغواي، تنيسي وليمز، سكوت فتزجيرالد، جون بيرمان، جون سيفر، رايموند كارفر.
لم تكتب لاينغ، وهي جالسة في مكتبها، مستعينة بالأرشيف الغني عن هؤلاء الكتّاب وسيرهم، بل رحلت إلى أميركا، وزارت مدنهم التي نشأوا فيها، وبيوتهم، وشوارعهم، وفنادقهم، وحاناتهم، وقابلت معارفهم وأصدقاءهم، لترسم لنا، في سرد أقرب إلى الشعر، سيراً وقائعية، ليس فقط عنهم، بل أيضاً عن مسارات تلك المرحلة في تاريخ الأدب الأميركي، والمجتمع الأميركي كله من خلال المصائر المأساوية لهؤلاء الكتّاب الستة، الذين، مع ذلك، «صدرت عنهم أجمل الكتابات التي عرفها العالم يوماً».
لكن بالرغم من هذا الجهد الكبير، لم تحاول الكاتبة للأسف الغوص عميقاً في دواخل هؤلاء، بل سجلت معاناتهم من الخارج، متناولة المحيط الذي نشأوا فيه، والعلاقة مع العائلة، وخاصة الأب، ثم تجاربهم العاطفية والزوجية الفاشلة، ما قادهم، كما ترى، إلى إدمان الكحول. لقد بدت المؤلفة في كثير من فصول الكتاب أقرب إلى الطبيبة والمحللة النفسية في تعاملها مع هؤلاء الكتّاب العظام، وكأنهم مجرد مدمنين أو مرضى نفسيين عاديين، حتى إنها نشرت فصولاً مطولة عن أضرار الكحول صحياً، تماماً كما في أي كتاب طبي.
لم تتساءل أوليفيا لاينغ؛ ما الذي كان يعذّب دواخل هؤلاء غير العوامل الخارجية التي ذكرتها؟ وأي قلق كان يأكل أرواحهم، بالرغم من أنهم جمعوا المجد من طرفيه، كما يقال؟ تنيسي وليمز، على سبيل المثال، كان أهم كاتب مسرحي بعد يوجين أونيل، وفاز 3 مرات بجائزة البوليتزر عن مسرحياته «عربة اسمها الرغبة» و«قطة فوق سطح صفيح ساخن» و«ليلة الإيغوانا»، وهو أمر لم يحصل من قبل، ولا حصل بعده. أي قلق كان يسوق وليمز، كأن الريح تحته، كما يقول المتنبي؟ كان يتنقل من شقة إلى شقة، ومن فندق إلى فندق، ومن مدينة إلى أخرى. لم يستقر قط في مكان واحد، إلى أن وجدوه ميتاً في غرفة فندق، كما توقع يوماً: «أي رجل على سفر دائم لا بد أن ينتهي في غرفة فندق محاطاً بحبوب منومة، وقنينتي نبيذ مفتوحتين على منضدة السرير... نحن نموت، كما نعيش، مضطربين!».
تناول وليامز كمية كبيرة من الحبوب المنومة، ونام إلى الأبد. تخلص من «الشياطين الزرق» التي كانت تطارده أينما ذهب.
لقد «صنع جحيمه بنفسه، وأن نصنع جحيمنا فلابد أن نحبه». كتب همنغواي قاصداً نفسه، بعد النجاح المدوي لروايته «الشمس تشرق أيضاً»، بدل أن يرفع كأسه احتفالاً. عرف الأرق الممض منذ ذلك الحين... والأرق بالنسبة إليه ضوء لرؤية جحيمه: «أنا نفسي لم أرد أن أنام، لأني عشت لزمن طويل مع يقين أني إذا أغلقت عيني وأطلقت لنفسي العنان فستخرج روحي من جسدي».
ما الذي كان يقلق همنغواي. ربما لم يعش كاتب في القرن العشرين حياة بعرضها وطولها مثله؛ أسفار، ومغامرات، ونساء، وشهرة قلما حققها أحد، ثم جاءه التتويج بجائزة نوبل.
أرق فيتزجرالد، صاحب «غاتسبي العظيم»، التي هزت العالم الأدبي حينها، وما تزال محتفظة بحضورها القوي، لم يكن يقل رعباً عن قلق صديقه همنغواي. كان يستيقظ في القسم الأوسط الرهيب من الليل، كما تخبرنا الكاتبة، «لتناول حبة منوّمة صغيرة... ينتظر حتى يبدأ مفعولها، فيعود متسلقاً السرير، ويحاول مثل همنغواي أن يبني لنفسه حلماً مزيفاً، هارباً إلى النوم».
نعم، قدمت أوليفيا لاينغ مسحاً شاملاً لحياة هؤلاء الكتاب الكحولية. لكنها أغفلت لبّ المشكلة التي تعذب المبدعين الحقيقيين عبر التاريخ؛ مشكلة الخلق، التي يحاولون أن يهربوا منها أو يموهوا عليها بأساليب مختلفة.