الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

الرجل الذي يتجرأ على بوتين

استمع إلى المقالة

لم تعد هناك حاجة إلى إرسال جواسيس إلى داخل الفرق العسكرية الروسية لمعرفة حجم تجهيزاتها وقدراتها العسكرية، ومواقع الخلل التي تصيبها، والتي يمكن أن يستفيد منها أعداؤها. ولم يعد الأوكرانيون في حاجة إلى أجهزة استطلاع لمعرفة ما يجري خلف خطوط القتال، شبيهة بتلك الوسائل التي كانت بدائية مقارنة بما هو متوفر اليوم، التي كانت تستخدمها قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية لمعرفة خطط وتحركات القوات النازية.

اليوم تكفي متابعة تصريحات «الرفيق» يفيغيني بريغوجين، هذا الكنز الثمين الذي يمدّك بما تحتاج إليه من معلومات عن الانهيارات الحاصلة داخل قيادة القوات الروسية، عن نقص الإمدادات، عن فشل وزارة الدفاع في إدارة الحرب، عن كبار الضباط الروس «المنتفخي البطون»، حسب وصف بريغوجين، الذين لا يأبهون بأعداد الجنود الذين يُقتلون على خطوط الجبهة في باخموت، وسواها من الجبهات التي تغرق فيها قوات بوتين.

يمكن أن تأخذك نظريات المؤامرة إلى افتراض أن بريغوجين لا يمكن إلا أن يكون «عميلاً» لفلودومير زيلينسكي! و«الدليل» على ذلك بسيط؛ إذ لا بد أن يكون في متناول السيد بريغوجين، زعيم مجموعة «فاغنر»، طرق أخرى لإيصال ملاحظاته على الأداء الذي يعدّه فاشلاً للجيش الروسي، غير التصريحات العلنية، التي تخدم الأعداء ولا تسرّ الحلفاء.

بريغوجين كان معروفاً (ولا أدري إذا كان لا يزال) من أكثر السياسيين الروس صلة بالرئيس بوتين. كان يوصف بأنه «طبّاخ الرئيس»؛ لأنه كان يملك سلسة من المطاعم في موسكو وسان بطرسبورغ تعد المأكولات للحفلات التي كان يقيمها سيد الكرملين. بل إن مجموعة «فاغنر» التي يقودها كان متعارفاً على وصفها بأنها «جيش بوتين الخاص». هل انقطع هذا الاتصال اليوم مع بوتين، أم أن بريغوجين أضاع رقم الرئيس الروسي، ولم تعد لديه وسيلة لإيصال صوته إلا عبر التصريحات المرتفعة النبرة، التي لا تبشر بخير لمستقبل «العملية الخاصة» التي يقودها زعيم الكرملين منذ 15 شهراً لتحرير أوكرانيا من أهلها «النازيين»؟

قبل يومين أعلن بريغوجين أن فرقة كاملة من الجيش الروسي تخلت عن مواقعها (هو استخدم تعبيراً لا يصلح للنشر) في باخموت، وتركت رجاله وحدهم بعدما قتل منهم 500 رجل. وقال إن قواته لم تتسلم سوى 10 في المائة من حاجاتها إلى الذخيرة التي طلبتها لمواصلة القتال.

قال أيضاً إن الأوامر جاءتهم بعدم إخلاء مواقعهم في باخموت، هذه المدينة المحاصرة التي تشهد قتالاً ضارياً منذ أشهر عدة من دون أن يستطيع الجيش الروسي وقوات «فاغنر» التي تقاتل هناك السيطرة عليها. قالت لهم القيادة الروسية إن أي تراجع سيُعدّ «خيانة للبلاد». رد بريغوجين على التهديد بأن «الخائن هو من يرفض توقيع الأوامر بتزويدنا بالأسلحة التي نحتاج إليها». أرفق ذلك بشريط فيديو يظهره وسط جثث مقاتلين من مجموعته سقطوا في تلك المعارك. ووصل سقف انتقاداته إلى من سماه «العرّاب» الذي يعطونه انطباعاً أن كل شيء على ما يرام بالنسبة إلى روسيا في حرب أوكرانيا.

دارت تساؤلات كثيرة عن هوية هذا «العرّاب» الذي يقصده بريغوجين، مع أن المعروف أن هناك «عرّاباً» واحداً يُصدِر الأوامر المتعلقة بالحرب وبكل أمر آخر في روسيا ويقيم في الكرملين. وصفه زعيم «فاغنر» بأنه «صاحب رأس فارغ»، وقال ماذا سيكون مستقبل أولادنا وأحفادنا ومستقبل روسيا إذا كان «العرّاب» هو صاحب هذا الرأس؟

لا حاجة إلى القول إن لا أحد في روسيا يجرؤ على مثل هذه الانتقادات لرأس الهرم في القيادة ويبقى من دون عقاب. معارضون يقبعون لأعوام طويلة في سجون تذكّر بالمعسكرات التي سجلها ألكسندر سولجنستين في تحفته «أرخبيل الغولاغ». جنرالات في الجيش كانوا يقودون المعركة تم استبدالهم لأنهم أدلوا بمواقف معارضة لخطط بوتين، أو أن أداءهم لم يعجبه، كما حصل مع الجنرال سيروفيكين، الذي تم استبعاده في يناير (كانون الثاني) الماضي، وتم تعيين الجنرال غيراسيموف رئيساً للأركان. غير أن غيراسموف ووزير الدفاع شويغو لم يسلما أيضاً من انتقادات زعيم «فاغنر»، الذي يتهمهما بالفشل وبسوء إدارة الحرب.

من أين تأتي قوة يفيجيني بريغوجين التي تسمح له برفع سقف الانتقادات إلى هذا الحد؟ في التقارير، أن جيش «فاغنر» المؤلف في أكثريته من المرتزقة هو من أشرس الوحدات التي تقاتل إلى جانب القوات النظامية الروسية. هذه المجموعة التي يقدّر الأميركيون عدد عناصرها بخمسين ألف مقاتل في أوكرانيا هي التي خاضت المعارك الحاسمة التي انتهت بالسيطرة على الأقاليم الشرقية الأربع في منطقة الدونباس، التي ضمها بوتين إلى روسيا. كما أنها سهّلت لبوتين الدعم العسكري الذي قدمه للرئيس السوري بشار الأسد، والذي سمح بأحداث انقلاب في ميزان الحرب بعد عام 2015. «فاغنر» توسع نشاطها ومعها يمتد النفوذ الروسي أيضاً إلى ليبيا والسودان ومالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وسواها؛ وبسبب هذا التمدد باتت مجموعة «فاغنر» على لائحة التنظيمات المطروحة لتصنيفها «إرهابية» من جانب الاتحاد الأوروبي وبريطانيا.

بوتين يحتاج إلى مجموعة «فاغنر»، ويحتاج إلى المحافظة على علاقات جيدة مع صديقه القديم بريغوجين. لكن ارتفاع سقف الانتقادات للحرب وللقيادة يمكن أن يغري أصوتاً أخرى داخل روسيا برفع صوتها أيضاً. وهذه مسألة لا يمكن أن يسكت عنها زعيم الكرملين.