آلان كويل
TT

حفل التتويج البريطاني... العرض التلفزيوني بات الآن يتم في العصر الرقمي

استمع إلى المقالة

لطالما استمد الغموض الذي يحيط بالعائلة المالكة البريطانية، وهو أمر ضروري للغاية لقبول الشعب لملكيته الأولى، قوته دائماً من مزيج من السرية والرمزية التي تتحد في مشهد مُصمم بدقة شديدة.

واليوم سيتم إحياء هذا المزيج من جديد في تتويج الملك تشارلز الثالث في كنيسة وستمنستر في لندن، فقد استغرق هذا المشهد سنوات من التخطيط، وذلك ليس لأنه حدث بحد ذاته فحسب، ولكن أيضاً باعتباره لحظة في التاريخ مرتبطة بشكل وثيق بعرضها على شاشات التلفزيون في جميع أنحاء بريطانيا وفي جميع أنحاء العالم.

وسيكون حفل التتويج هذا هو الأول منذ تتويج والدة تشارلز، الملكة الراحلة إليزابيث الثانية (التي توفيت في سبتمبر/ أيلول الماضي) في يونيو (حزيران) 1953، الذي كان أول تتويج يتم بثه كاملاً بشكل مباشر في وقت كان البث التلفزيوني فيه لا يزال أمراً جديداً، وقد بدأ هذا الحفل حقبة طويلة من التنسيق الوثيق بشكل متزايد بين قصر باكنغهام وهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي).

وقد اشتكى مناهضو الملكية بمرارة من هذا الأمر، بما في ذلك غراهام سميث، رئيس منظمة «الجمهورية»، الذي قال في بيان صدر مؤخراً «إن (بي بي سي) تحرف صورة النظام الملكي والرأي العام حوله بشكل روتيني، إذ تظهر أن الأمة تحتفل بالفعاليات الملكية الكبرى ولكن الواقع ليس كذلك».

وبينما ترفض «بي بي سي» مزاعم التحيز هذه، فإنه ليس هناك شك في أنه مع تقدم التكنولوجيا الرقمية على مدى سنوات عديدة، أصبحت تغطية الهيئة البريطانية للشؤون الملكية أكثر تعقيداً من أي وقت مضى، وبعبارة أخرى، فقد سهلت الوسائل التكنولوجية نوعاً من التغطية الشاملة لرسالة لم تكن لتتحقق في الخمسينات من القرن الماضي.

ففي عام 1953، ظهر حفل تتويج الملكة لأمة منبهرة بمعجزة جديدة تسمى التلفزيون، ويحب جيل طفرة المواليد البريطانيين، الذين كان الكثير منهم أطفالاً صغاراً في ذلك الوقت، أن يتذكروا أن التلفزيون في تلك الأيام كان يعني وجود شاشة صغيرة بالأبيض والأسود في خزانة خشبية كبيرة تبث قناة واحدة، حيث فرضت المؤسسة البريطانية، بما في ذلك النبلاء والكهنة، وكذلك هيئة الإذاعة البريطانية، سيطرة حصرية على اللقطات أحادية اللون شكلت ذاكرة الجيل الذي حضر الحدث.

تم في حفل تتويج الملكة إليزابيث تثبيت هوائيات مؤقتة على قمم التلال لربط الأجزاء المختلفة من الجزر البريطانية بوحدة البث المركزية في لندن، وفي حقبة ما قبل الأقمار الصناعية والرقمية قامت قاذفات سلاح الجو الملكي البريطاني بنقل فيلم خام من حفل التتويج عبر الأطلسي لبثه على الشبكات الأميركية.

وكان بعض أعضاء العائلة المالكة البريطانية يرغبون في إبعاد الكاميرات عن الحرم الداخلي لكنيسة وستمنستر، التي كانت توجد فيها الملكة في ذلك الوقت، ونقل عن القس جيفري فيشر، رئيس أساقفة كانتربري، الذي ترأس مراسم تتويج الملكة، قوله «كان العالم سيكون مكاناً أكثر سعادة، لو لم يتم اكتشاف التلفزيون أبداً».

وحتى اليوم قرر الملك تشارلز الثالث أن يحذو حذو والدته من خلال منع الكاميرات من دخول ما يعد الجزء الأكثر قداسة في مراسم التتويج، الذي يتم فيه إجراء المسحة بما يسمى «زيت الميرون».

ولكن هناك أشياء أخرى كثيرة تغيرت منذ تتويج الملكة في الخمسينات، إذ يقول فيرنون بوغدانور، الخبير الدستوري في «كينغز كوليدج» بلندن، في مقابلة أجريت معه مؤخراً: «عندما توجت إليزابيث، تميزت بريطانيا بالاحترام الشديد للنظام الملكي، حيث كان يُعتقد أن هذا النظام سحري ولا يمكن المساس به»، مضيفاً أنه «منذ ذلك الحين، تغير القصر الملكي في وندسور بشكل جذري، من ملكية سحرية إلى ملكية خدمة عامة يتم الحكم عليها من خلال ما إذا كانت تساهم في المجتمع، وإذا لم تكن كذلك، فإنها لن تحظى بتأييد الناس، ويبدو أن الملك تشارلز مدرك لذلك جيداً».

وبالنسبة للملك، فقد حولت الثورة التكنولوجية المبتكرة كل مالك هاتف ذكي إلى مصور سينمائي، مرتبطاً بعالم متعدد من التطبيقات والمنصات وعمليات التحميل والتنزيلات، وبينما أظهر حفل تتويج والدته النظام الملكي بصورة رائعة لا جدال فيها، فإن التحدي الذي يواجهه الملك تشارلز اليوم بات يتمثل في تشتيت تركيز الضوء المُسلَط على العائلة.

وفي حين تطلَّب تتويج الملكة إليزابيث حوالي 20 كاميرا فقط، فإنه من المقرر أن يتم بث تتويج الملك تشارلز على خدمة البث المباشر عالية الدقة من «بي بي سي» (آي بلاير)، بجانب التغطية التلفزيونية، وقبل التتويج، سيتم بث عروض تلفزيونية أخرى، بما في ذلك مسلسل تلفزيوني وبرامج مخصصة عادة للحياة الريفية، مع حلقات تحت عنوان التتويج، وفقاً لشارلوت مور، وهي كبيرة مسؤولي المحتوى في «بي بي سي». وسيكون لدى الشركات الإقليمية التابعة لهيئة الإذاعة البريطانية وقنواتها الإذاعية العديدة ومحطات البث التلفزيوني التجارية المنافسة برامج حول الأمور الملكية أيضاً.

وبسبب خطاباتها التلفزيونية القليلة والتزامها الشديد النَص الملكي، بدا أن الملكة الراحلة إليزابيث توازن بشكل عام بين حاجة النظام الملكي للظهور مع كرهه الدائم للتدقيق، ولكن أداء بقية أفراد عائلتها كان مختلفاً تماماً على الشاشة.

وكتبت كاثرين ماير في كتاب «تشارلز: قلب الملك»، سيرة ذاتية تم تحديثها العام الماضي بعد نشرها لأول مرة في عام 2015: «لقد أصبحت النظرة العامة للعائلة لا تغفر شيئاً، حيث باتت نظراتهم، مثل أحكامهم، أكثر قسوة، وفي حال كان أفراد العائلة المالكة البريطانية يرغبون في رؤية أكبر المخاطر التي تواجه بقاء النظام الملكي، فهم سيكونون بحاجة فقط إلى النظر في المرآة».

فمنذ منتصف التسعينات، عندما أجرى الأمير تشارلز وديانا، أميرة ويلز، مقابلات تلفزيونية للحصول على التعاطف مع رواياتهما المتباينة عن مشكلاتهما الزوجية، التي بلغت ذروتها بالطلاق في عام 1996، بدت جهود أفراد العائلة المالكة للمضي قدماً في أجنداتهم على شاشات التلفزيون غامضة في أحسن الأحوال.

ففي عام 2019، أجرى الأمير أندرو، الابن الثاني للملكة إليزابيث بعد تشارلز، مقابلة تلفزيونية مطولة لمحاولة دحض الاتهامات المتعلقة بصداقته مع رجل الأعمال الأميركي جيفري إبستين المدان في قضايا تتعلق بسوء السلوك الجنسي، وأدت المقابلة إلى كارثة دعائية، مما أدى إلى انسحاب الأمير من الحياة العامة.

وبعد ذلك، في مارس (آذار) 2021، ظهرت ميغان ماركل والأمير هاري في مقابلة مشتركة مع المذيعة الأميركية أوبرا وينفري، تم عرضها في الولايات المتحدة ثم في بريطانيا، بعد قرارهما العيش في كاليفورنيا والتراجع عن أدوارهما كأحد كبار العائلة المالكة، وتطرقت المقابلة إلى مجموعة من الموضوعات، بما في ذلك قضايا الصحة العقلية، والإيحاءات بالعنصرية في قصر وندسور، وإحساس الزوجين بالانفصال عن العائلة والخيانة والضعف.

ولكن التعبير المتكرر عن المظالم، مثل مقابلات الأمير أندرو لتبرئة نفسه، عزز الإحساس بوجود مؤسسة مختلة، وفي الفترة التي سبقت التتويج، كان أحد الأسئلة التي تسعى الصحف البريطانية جاهدة للحصول على إجابة عنها هو ما إذا كان هاري سيحضر أهم حدث عام في حياة والده في 6 مايو (أيار) الحالي، والإجابة هي أنه ربما يفعل ذلك، ولكن من دون حضور ميغان وطفليهما.

فبالنسبة للملك تشارلز، فإن إعادة رسم المشهد الإعلامي مؤخراً والمزاج العام الحالي يمثلان مخاطر لم يكن يتخيلها كثيراً عندما توجت والدته.

* خدمة «نيويورك تايمز»