أحمد محمود عجاج
TT

مذكرة اعتقال الرئيس بوتين: ازدواجية المعايير وهشاشة القانون

عندما كتب الفيلسوف كانط كتابه بعنوان «السلام الأبدي» تصور أنَّ المجتمع الدولي لن يعيشَ سلاماً دائماً إذا لم تقبل جميع دوله الخضوع لسلطة قضائية مركزية؛ ورأى أنَّ المفتاح لتحقيق ذلك هو قيام جمهوريات بدساتير ديمقراطية. الكانطية هذه تحققت بإنشاء «عصبة الأمم» بعد الحرب العالمية الأولى، ثم فشلت، ثم تحققت ثانية مع تأسيس «الأمم المتحدة» بعد الحرب العالمية الثانية؛ لكن سرعان ما تبيَّن أنَّ تركيبة مجلس الأمن الدولي، واستخدام حق النقض، عطَّل عمل مؤسسات الأمم المتحدة، ولم يتيسر للمنظمة أن تنشئ محكمة قضائية دولية ملزمة؛ لذلك، في مواجهة انتهاكات الدول للقوانين، ولحقوق الإنسان، وفشل الأمم المتحدة، اضطرت دول عبر «اتفاقية روما» إلى إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، محققة حلم كانط بعدالة دولية؛ لكن العطب الذي أصاب الأمم المتحدة وما قبلها، أصاب المحكمة الجنائية الدولية؛ لأنَّها لا تلزم إلا الدول الموقعة على ميثاقها أو تلك التي تقبل تحكيمها. وقد نجحت المحكمة سابقاً في محاكمة رؤساء، إلا أنَّ ذلك تحقق بتوازن القوى وليس بإلزامية القانون؛ ومبدأ توازن القوى ينسف مفهوم العدالة، وبالذات فكرة المساواة بين الضعيف والقوي. لذلك لم تلقَ مذكرة المحكمة باعتقال بوتين سوى الازدراء، لدرجة أنَّ الرئيس الروسي السابق مدفيديف اعتبرها بمثابة ورق مرحاض.
استندت مذكرة الاعتقال إلى تحقيقات أجرتها المحكمة في أوكرانيا، ورجحت فيها أنَّ بوتين مسؤول عن ارتكاب ما يرقى لجريمة حرب، لترحيل قواته ما يقارب 6 آلاف طفل أوكراني إلى روسيا، ووضع بعضهم في معسكرات لإزالة هويتهم الوطنية واستبدالها بالهوية الروسية. ولعلَّ اعتراف روسيا بترحيل مئات الأطفال، ووضعها آخرين عند عائلات روسية لرعايتهم، سهَّل على المحكمة إفراد هذه الجريمة من دون غيرها من الجرائم الكبيرة المنسوبة لروسيا، على قاعدة أنَّ الاعتراف سيد الأدلة. وعلى الرغم من أنَّ الروس قابلوا المذكرة بغضب شديد، وأبرزوا عدم عضوية بلادهم في المحكمة بعد انسحابهم منها في عام 2016، ووصفوا قرارها بالانحياز، واتهموها بتنفيذ أجندة حلف «الناتو»، فإنَّهم أدركوا أنَّ مشكلة المذكرة ليست في قوتها القانونية إنَّما بثقلها الأخلاقي؛ لأنَّ الرئيس بوتين سيكون بنظر نحو 133 دولة منتسبة للمحكمة، «مجرم حرب»، ولا يمكن أن يستقبلوه، وعليهم التزام قانوني باعتقاله وتسليمه. كما أن المذكرة كذلك تذكير للمسؤولين الروس الآخرين بأنهم معرضون لمثل ما تعرض رئيسهم، وأن تنقلاتهم ستصبح محدودة جداً خارج حدود روسيا، ولو لغرض حضور مؤتمرات دولية. علاوة على ذلك فإنَّ المذكرة ستسبب إحراجاً لبعض الدول، وستضطر إلى إعطاء تبريرات، كما فعلت جنوب أفريقيا عندما زارها الرئيس السوداني عمر البشير، وبررت آنذاك أنه لا يمكن تسليمه بحجة السيادة، وأن قانون المحكمة لا يلزمها بذلك.
لا شك في أنَّ مدعي عام المحكمة البريطاني كريم خان يدرك تماماً استحالة اعتقال الرئيس بوتين، ومع ذلك أصدر المذكرة لاعتقاده أنَّ ثقلها الأخلاقي سيسبب له إحراجاً، وأنَّه قد تتغيَّر الظروف، ليصبح بالإمكان تنفيذ الحكم.
لكن المحكمة متهمة هي أيضاً أخلاقياً لممارستها الازدواجية؛ فعندما تابعت تحقيقات بحق الرئيس بوش الابن، تراجعت بعد تهديدات من إدارة الرئيس ترمب بفرض عقوبات على قضاة المحكمة. هذا الواقع بالذات يضع المحكمة أمام تحديات عليها أن تواجهها، وإلا ستتهم بأنَّها تناصر فريقاً على حساب آخر، وأن القانون بيدها أصبح أداة للانتقام وليس لتحقيق العدالة. ولا يمكن للمحكمة أن تحقق نجاحاً ما دام النظام الدولي قائماً على إعلاء مبدأ السيادة على كل المبادئ؛ فالسيادة تنطوي على أنه لا يمكن إجبار دولة على شيء لا تقبل به مهما كان، إلا إذا وصل لمرحلة العُرف الملزم (Jus cogens) أي الجرم الذي يهز الضمير الإنساني، مثل الإبادة الجماعية. أما ترحيل الأطفال، وتغيير انتمائهم الثقافي فعلى الرغم من أنه جريمة في القانون الدولي، فإنه لا يصل لدرجة العرف المُلزم، ناهيك عن الخلاف حول توصيف الوقائع، ونزاهة التحكيم، وجمع الأدلة. لكن الروس لم يتوقفوا عند العرف الملزم وتفسيره؛ بل اعتبروا المذكرة اعتداء على السيادة، وهددوا أي دولة تعتقل رئيسهم بالحرب؛ هكذا بدل أن تكون المحكمة، كما يرى كانط، أداة لمنع الحرب، أصبحت أداة لتسعيرها. وللخروج من هذا المأزق، تبقى الأمم المتحدة المظلة الدولية الملزمة للجميع؛ سواء وقَّعوا على ميثاقها أم لا؛ فالمنظمة الدولية، عبر مجلس الأمن، لها سلطة إلزامية، ولديها الصلاحية لإنشاء محاكم خاصة كما حدث في البوسنة والهرسك، أو في لبنان، أو في رواندا، وأماكن أخرى، وكانت نتيجتها في بعض الحالات محاكمة المتهمين وسوقهم إلى العدالة؛ لكن تحقيق المحاكم الخاصة يحتاج لمجلس الأمن وموافقته، وبالتالي لا يمكن لروسيا أن توافق على إدانة نفسها، وبذلك لا تتحقق العدالة، ويفلت منها الكبار ويعلق بها الصغار إذا تكالب عليهم أصحاب حق النقض في مجلس الأمن.
في كل هذه السيناريوهات، سواء كانت المحكمة الجنائية الدولية أو المحكمة الخاصة، فإن الخاسر الحقيقي هو العدالة التي من دونها لا يمكن منع انتهاكات حقوق الإنسان، ولا وقف اندلاع الحروب. ولا يوجد، مع الأسف، حل سحري في ظل نظام عالمي متصارع، يخضع لمعيار السياسة الواقعية، وفيه تظهر بفظاظة هشاشة القانون وازدواجية المعايير. وعلى الرغم من كل هذا فإن المحكمة الجنائية الدولية تمثل ثقلاً أخلاقياً لا ينكر، وعلى الرغم من فشلها في تنفيذ المذكرة، استطاعت أن تبرز الانتهاكات، وأن تدين روسيا أخلاقياً؛ وهذه الإدانة ليست بالأمر السهل؛ لأن الدول مثل الأفراد تهمها سمعتها، ونظافة كفها؛ لذلك ليس عجباً أن تطعن روسيا في سمعة المحكمة، وبالوقت ذاته تحرص أميركا على تلميعها؛ إنه عالم الكبار.