تصافح التقارير الدولية فتجد أن الدول السبع الكبرى اقتصادياً على الترتيب هي الولايات المتحدة الأميركية، والصين، واليابان، وألمانيا، والهند، والمملكة المتحدة وفرنسا، مصنّفة وفقاً للناتج المحلي الإجمالي الذي يخبرنا بمجموع ما أنتجته كل دولة من سلع وخدمات بسعر السوق على مدار العام. ووفقاً لهذا المعيار، تتصدر الولايات المتحدة، حتى الآن، هذا السباق بناتج مقداره 23 تريليون دولار تقريباً، وتتلوها الصين بنحو 18 تريليون دولار، ثم تأتي بعدهما بمسافة بعيدة اليابان بنحو 5 تريليونات دولار، ثم تتوالى باقي البلدان.
وإذا ما أردنا التعرف على الأغنى والأفقر بين الدول فيكون ذلك بالتعرف على نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، فتأتي لوكسمبورج في الصدارة بنحو 108 آلاف دولار، ثم من بعدها تأتي آيرلندا، وسويسرا، والنرويج، وجزر كايمان، وسنغافورة ثم الولايات المتحدة. أما أفقر سبع دول بهذا المعيار، فتأتي في مقدمتها بوروندي بمتوسط ناتج للفرد بلغ 261 دولاراً، أي أقل من الأغنى في قائمة الدول بأكثر من أربعمائة مرة، والأقل فقراً من بوروندي دول أفريقيا الوسطى، ومالاوي، وأفغانستان، ومدغشقر، والكونغو والنيجر.
ويعد النمو الاقتصادي الحقيقي المطرد الشامل للكافة عبر الزمن هو السبيل الوحيد لتقدم الدولة اقتصادياً في سباق الأمم، وهو يعتمد، فيما يعتمد عليه، على الاستثمار في البشر وفي البنية الأساسية والتكنولوجية وفي الاستثمار في حوكمة الاقتصاد ومؤسساته ومتانته باعتبار القدرة على التصدي للصدمات والتعامل مع المربكات.
وفي دراسة حديثة للبنك الدولي عن آفاق النمو الاقتصادي طويل الأجل، صدرت منذ أيام، يبرز دور نمو الناتج المحلي الإجمالي في شرح ما حدث لاقتصادات العالم. ففي تسعينات القرن الماضي حتى الأزمة المالية العالمية في 2008، ارتفعت الإنتاجية وزادت معدلات نمو الناتج المحلي ومن ثم الدخول، متزامناً ذلك كله مع انخفاض معدلات التضخم فتحسنت مستويات المعيشة بما في ذلك في البلدات النامية. ولكن في أعقاب الأزمة العالمية تراجعت الإنتاجية على المستوى العالمي في البلدان النامية حتى اندلاع جائحة كورونا في 2020 التي خفضت معدلات النمو الاقتصادي ونتيجة للأزمات المتعددة والمتلاحقة منذئذ. فتوقعات نمو إجمالي عوامل الإنتاج هي الأدنى منذ عقود عدة وتوقعات متوسط نمو الاستثمار في الأجل المتوسط نصف ما كانت عليه في آخر 20 سنة مع متوسطات تضخم هي الأعلى منذ أربعين عاماً بما يخفض من فرص العمل ويعرّض الأجور والدخول للتآكل بما ينذر بعقد ضائع للنمو ومن ثم التنمية. فمتوسط النمو السنوي الحقيقي الذي يتوقعه التقرير المذكور لهذا العقد المنتهي في 2030 لا يتجاوز 2.2 في المائة، بما يقل بنحو 15 في المائة عن العقد الثاني من هذا القرن و37 في المائة عن العقد الأول. تراجع معدلات النمو يهدد الاستقرار الاقتصادي، وبخاصة في البلدان النامية لأنه يعني معدلاً أقل من الدخل لن يلاحق الزيادات المتلاحقة في أسعار الفائدة لقروض البلدان المدينة بما يهدد قدرتها على الوفاء بالتزامات ديونها، كما أن تدني معدل نمو الناتج عن متوسط الزيادة السكانية يعني استمراراً في تدهور مستوى المعيشة، وبخاصة مع ارتفاع معدلات التضخم.
كيف يمكن زيادة النمو الاقتصادي دون زيادة التضخم اشتعالاً؟ هذا هو السؤال المحوري الذي يدور حول الحد الأقصى لسرعة النمو المطلوبة التي يمكن دفعها بسياسات محددة على مستوى الدولة تساعد على الانفلات من هوة الركود ومكافحة الفقر والتصدي لتغيرات المناخ والسيطرة على إدارة الدين العام، وبخاصة الخارجي منه. وتستعرض الدراسة خمسة أوجه للتدخل العاجل على مستوى اقتصاد الدولة:
1) زيادة الاستثمار من خلال إزالة عوائق نموه، مثل تكاليف الإنشاء والتأسيس والتشغيل وضعف نظم الحوكمة وحقوق الملكية وتراجع التنمية المالية وتشوه قواعد المنافسة. ويمكن لهذا الاستثمار أن يحظى بدفعة من أولويات العمل المناخي في مجالات الطاقة الجديدة والمتجددة، وكذلك التكيف مع الانبعاثات الضارة كتلك التي نصّت عليها أجندة شرم الشيخ للتكيف التي تتضمن استثمارات في نظم الري والزراعة والغذاء والبنية الأساسية الحيوية، وتمتين الاقتصاد والمجتمع من الصدمات والكوارث الطبيعية. ويتطلب هذا، وكأولوية أولى، استثماراً في البشر بزيادة كفاءة التعليم والرعاية الصحية وإعدادهم للتعامل مع فرص وتحديات العصر الرقمي.
2) التنسيق بين السياستين النقدية والمالية العامة: لم تعد للحكومات فرصة للتراخي في تفعيل ممكنات التوافق بين إجراءات السياسات المالية العامة من ضرائب وإنفاق عام في إدارتها للموازنات والمديونية العامة وأدوات السياسة النقدية من أسعار فائدة والتحكم في عرض النقود ومنح الائتمان. وما زلت أعجب لمطالبات من بلدان بالتعاون والتنسيق الدولي في إجراءات السياسات العامة ذات التأثير عبر الحدود، وهذه البلدان ذاتها تفتقد للحد الأدنى للتنسيق بين مؤسساتها العامة، فلا تتبادل المعلومات المدققة عن أنشطتها، ولا تتشاور فيما بينها عن البدائل المتاحة لسياساتها إن وجدت أصلاً، وتحجب توجهاتها عن بعضها بعضاً وكأنها جهات معادية. فتغيب الأولويات وتتضارب الإجراءات فلا تصيب هدفاً فلا هي خفضت من التضخم أو سيطرت على الديون وعجز الموازنة وتجد النمو والبطالة والفقر من ضحاياها.
3) تخفيض تكاليف المعاملات التجارية: ترصد الدراسة المذكورة، أن عدم كفاءة قطاعات النقل واللوجيستيات وخدمات الموانئ وتعقّد إجراءاتها الرقابية تزيد تكلفة التصدير والاستيراد وتضعف تنافسيتها، ومن البدهي أن تزال هذه القيود قبل أي حديث قد يطلق عن النمو وأثر التصدير على زيادته. كما أن دولاً تضع قيوداً جمركية وغير جمركية على الاستيراد بغية تخفيض عجز الحساب الجاري لميزان المدفوعات عليها أن تدرك أثرها على تكاليف الإنتاج والاستهلاك فالمستوردات نوعان، إما مدخلاً في العملية الإنتاجية كالخامات والآلات والمعدات أو سلعاً تامة الصنع قد تنافس بجودتها أو سعرها، أو هما معاً، المنتج المحلي لصالح المستهلك وزيادة التنافسية، أما تقييدها رغم التزامها بقواعد المنافسة ستُدفع حتماً تكلفته بغلاء في الأسعار على المستهلكين وتراجع النشاط الإنتاجي إذا كانت من مكوناته.
4) تطوير الخدمات: تشير الدراسة إلى فرص للنمو تتحقق برفع كفاءة وإنتاجية قطاع الخدمات. والتحدي أمام البلدان النامية هو زيادة قدرتها في الاعتماد على التكنولوجيا الرقمية فنصيب الصادرات المعتمد عليها قد زاد إلى 50 في المائة من إجمالي صادرات الخدمات. وهذا يرجع بنا إلى حيوية الاستثمار في البشر ومهارات التعامل مع مستجدات الثورة الصناعية الرابعة بتطوير القدرة التكنولوجية، وبخاصة في استخدام قواعد البيانات الكبرى والذكاء الصناعي.
5) زيادة مشاركة قوة العمل في العملية الإنتاجية: بالإضافة إلى تحديات تتعلق بالاستفادة المثلى من قوة العمل، ترصد الدراسة أن مشاركة المرأة ما زالت في حدود 75 في المائة من مشاركة الرجل، وأن هناك انخفاضاً أكبر وبشكل ملحوظ في البلدان النامية، وأن رفع متوسط المشاركة في منطقة مثل الشرق الأوسط التي تضم أغلب البلدان العربية، ليقترب من متوسط البلدان النامية، من شأنه أن يزيد معدل النمو بمقدار 1.2 نقطة مئوية.
فضلاً عن هذه الإجراءات، تشير الدراسة إلى أهمية تفعيل أطر التعاون الدولي في تحقيق أهداف النمو من خلال قنوات التجارة والتمويل وإدارة الديون والصحة العامة والعمل المناخي من أجل زيادة تدفقات الاستثمارات المطلوبة. ومن أسف أن العالم يمرّ بأكثر الفترات سوءاً في التعاون الاقتصادي مع تزايد إجراءات الحمائية وتقييد حركة التجارة والاستثمار والتمويل، بل وتسييسها. ولعلك تقرأ مقالين أخيرين عما آلت إليه العولمة صدرا الشهر الماضي، أولاهما لمايك سبنس الحائز جائزة في الاقتصاد يتحدث فيه عن الانفصال المدمر بين القوتين الاقتصاديتين الأكبر عالمياً وبعواقب وخيمة، وبخاصة على سلاسل التوريد التي تعوق كفاءتها سياسات ما بعد الحرب الأوكرانية فيما يعرف «بدعم الأصدقاء»، وكذلك بسبب تغيرات المناخ وحدة تغيرات الطقس، فضلاً عن تداعيات جائحة كورونا، بما جعل آليات التجارة أقل فاعلية في مكافحة التضخم ودفع النمو، ويقلل من احتمالات تحقيق أهداف الاستدامة بما في ذلك العمل المناخي. أما المقال الآخر، فهو لجوزيف ناي، الأستاذ بجامعة هارفارد، في محاولة إجابته عن سؤال «هل انتهت العولمة؟» يستنجد في إجابته بأنه حتى بافتراض وجود قيود على التجارة والاستثمارات، بسبب المنافسة الجيوسياسية، فالعالم سيستمر مرتبطاً ببعضه بعضاً وستعوض العولمة البيئية ما تفقده العولمة الاقتصادية من خلال تغيرات المناخ والأوبئة التي تخضع لقوانين الطبيعة والفيزياء وليس الإجراءات السياسية، بما يحتم إدراك أهمية الاعتماد المتبادل بين البلدان المختلفة لمواجهة هذه التحديات المشتركة. ولكن هذا لا ينفي أنه بعدما كان التبادل التجاري والاستثمار الأجنبي من أهم أدوات التقارب بين البلدان على اختلاف توجهاتها الآيديولوجية، وبخاصة في الربع الأخير من القرن الماضي فقد تم «تسليحهما» في إطار التوترات الجيوسياسية القائمة، بما يقيّد من فرص النمو ويقلل احتمالات تحقيق التنمية المستدامة، ويقوض أيضاً في هذه الأثناء ما تبقى من البناء الاقتصادي العالمي القديم.
7:44 دقيقه
TT
عن سباق الأمم في العقد المفقود
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة