توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

رمضان كريم

يحل علينا هذا الأسبوع شهر رمضان المبارك، الذي اعتاد أهل بلدنا أن يتخذوه فرصة للتواصي بمكارم الأخلاق، لا سيما الإحسان إلى ضعفاء الخلق، وكذلك التواضع وفعل الخير، وترك الإساءة بالقول والفعل، حتى لمن أساء إلينا، وأمثال هذا من الآداب والمحاسن.
وقد سمعت أحياناً من يعارض هذا الكلام بمثل القول إنه إذا تكبر عليك أحدهم فتكبر عليه، وإذا ضربك أحدهم فرد الضربة بضربة، وإذا كان سيئاً فكن سيئاً معه، ولعله يستشهد بقول عمرو بن كلثوم: «ألا لا يجهلن أحد علينا... فنجهل فوق جهل الجاهلينا».
ولست في وارد الجدل مع أصحاب هذا الرأي. لكني وجدت حاجة لوضع قاعدة، تكون معياراً نرجع إليه في الأخذ بهذا الرأي أو نقيضه. هذه القاعدة هي فكرة الأمر المطلق أو القانون الكوني التي اقترحها إيمانويل كانط، الفيلسوف الألماني الشهير.
يبدأ كانط بالنظر في داخل النفس الإنسانية، فيراها منجذبة بطبيعتها للاستكثار من المنافع المادية، حتى لو أدى للاستئثار بها دون الآخرين أو على حسابهم. هنا يتوقف كانط، داعياً للبحث عن مصدر هذا الميل الأناني: هل هو غريزة التملك التي نولد وهي جزء من تكويننا العقلي؟ أم هو صادر عن قناعات امتصها الإنسان من محيطه، مثل استنقاص الآخرين، لسبب ديني أو عرقي أو طبقي أو غيره؟
يدعونا كانط للنظر إلى أحكامنا وقراراتنا وأفعالنا، كما لو أنها ستصبح قانوناً كونياً يطبق على غيرنا أولاً، لكنه بعد ذلك سيطبق علينا وعلى أبنائنا وأهلنا أيضاً. بعبارة أخرى، فإن القانون الكوني يعني أنني سأكون عرضة للحكم نفسه الذي أصدرته على غيري. فإذا حرمته من شيء، فسيكون من حق الآخرين أن يعاملوني بالطريقة نفسها، وإذا كذبت عليهم، فقد أعطيتهم المبرر كي يكذبوا علي، وإذا استأثرت أنا وأهلي بشيء دونهم، فقد منحتهم إذناً إن أرادوا أن يستأثروا بما شاءوا ويحرموني من كل ما أظنه حقاً مشتركاً لي ولهم.
القانون الكوني إذن هو ما ينطبق على الجميع بنفس القدر والدرجة. فإذا أعطيت لنفسي الحق في فعل شيء يؤذي الغير، فقد أقمت قاعدة جديدة تسمح لهم بفعل ما يؤذيني، فإذا عارضتهم، فلهم أن يقولوا: لقد سبقتنا ووضعت قانوناً، وقد جرى في الأمثال قول بعض السلف «كما تدين تدان».
أريد الإشارة إلى أن هذه الفكرة ليست جديدة تماماً، وليست من مبتكرات كانط، فقد ورد مثلها في كثير من النصوص القديمة، الفلسفية والأخلاقية. ولعل من أقربها إلى مألوفنا، وصية الإمام علي بن أبي طالب لولده، التي يقول فيها: «يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارضَ من الناس بما ترضاه لهم من نفسك».
يستطيع الإنسان معرفة الدافع العميق لحكمه على الآخرين أو تصرفه تجاههم. فهو قد يترفع عليهم، لأنه يرى نفسه صاحباً للدين الحق، أو منحدراً من عرق أصفى أو أرقى، أو منتمياً إلى طبقة أرفع شأناً. بل إن الإنسان يسعى لاستنباط مبررات (كاذبة في بعض الأحيان) تربط ربطاً اعتباطياً بين الميول الأنانية وهذه الانتماءات. أقول إن الإنسان يستطيع اكتشاف هذه الحقيقة لو تأمل بعمق في دواخل نفسه.
أتمنى لكم شهراً حافلاً بالمسرات، كما أتمنى أن تتاح لكل منا الفرصة كي يهذب ما استطاع من نوازع النفس، كي نعود في ختامه أقرب إلى حقيقة الإنسانية الصافية، التي هي تجلٍ من تجليات الفيض الرباني. كل عام وأنتم بخير.