د. ناصيف حتي
TT

الشرق الأوسط ومسارات التطبيع

يشهد الشرق الأوسط مؤخراً انطلاق مسارات ثلاثة لتطبيع العلاقات بين قوى متخاصمة أو متصارعة بأشكال ودرجات مختلفة. وكان قد سبق هذه المسارات الثلاثة الجديدة، في العامين الماضيين، مسار تطبيع العلاقات التركية مع قوى عربية كانت أنقرة على علاقات متوترة معها عندما حملت تركيا لواء الإسلام السياسي (الإخواني) كعامل أساسي في سياستها الخارجية وأعطت لنفسها حق التدخل باسم دعم هذا التيار في الشؤون الداخلية لتلك القوى. وسبقت قطر تركيا في تطبيع علاقاتها مع الدول ذاتها التي حكمت علاقاتها معها إدخال العنصر العقائدي والسياسي المشار إليه في الحالة التركية. وكان يكفي في الحالتين كشرط أساسي إسقاط هذا العنصر من هذه السياسات لتطبيع العلاقات وإعادتها إلى ما كانت عليه في السابق من تعاون وتنسيق في المجالات كافة.
نشهد، اليوم، مبادرة روسية انضمت إليها إيران لتطبيع العلاقات بين سوريا من جهة، وتركيا من جهة أخرى، وهي الشريك الثالث لهما في «مسار آستانة» الخاص بالعمل على احتواء الصراع المتعدد الأوجه والأبعاد في سوريا والدفع نحو تسويته. صحيح أن هذا المسار التطبيعي أصيب بالانتكاس، ولا يعني ذلك الفشلَ بل التعثر الذي يمكن احتواؤه، بعد أن رفضت سوريا رفع مستوى المحادثات إلى «حوار» لوزراء الخارجية، وبعدها إلى قمة رئاسية طارحة شروطاً للتفاوض التطبيعي؛ منها انسحاب القوات التركية من سوريا، ووقف دعم أنقرة للإرهاب أي للحركات المعارضة، وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه. شروط قد تبدو للبعض شبه مستحيلة التحقيق بشكل مسبق من طرف أنقرة، ولكن لا يستبعد نجاح موسكو بشكل خاص ومعها طهران، في تدوير الزوايا والتوصل إلى صيغة مرنة تستوعب الشروط السورية من خلال تحقيق بعض منها لإعادة إحياء مسار تطبيع العلاقات.
مسار ثان لتطبيع العلاقات جمع سوريا أيضاً مع عدد من الدول العربية. كانت بعض هذه الدول قد أطلقت مسار إعادة العلاقات مع سوريا، ولو بشكل بطيء أو خجول، فيما البعض الآخر تحوَّل من تطبيع على مستوى أمني شبه سري إلى تطبيع سياسي تدريجي. فيما أعلن آخرون عن الجهوزية للبدء بمسار لتطبيع العلاقات بشكل تدريجي مع سوريا بانتظار حصول إشارات أو مواقف إيجابية من طرف دمشق. ويرى أكثر من مراقب أن الزلزال الطبيعي الذي أصاب سوريا كما أصاب تركيا، كانت له «ارتدادات» سياسية أنعشت أو وفّرت أو سرّعت الفرصة للتطبيع الذي رحبت به دمشق علانية، وبالطبع هنالك سرعات مختلفة في مسار التطبيع السوري العربي، حسب كل حالة على حدة. لكن القطار قد انطلق في رحلته نحو المحطة الأخيرة التي هي عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية بما تحمله تلك العودة من رمزية. ولكن يرى كثيرون أنه من المبكر الحديث عن عودة قريبة لدمشق إلى جامعة الدول العربية بانتظار استكمال عملية التطبيع على المستوى الثنائي وتعزيزه مع القوى العربية الفاعلة. ولا يستبعد كلياً حصول ذلك في القمة العربية القادمة التي يجري الحديث عن انعقادها في مايو (أيار) المقبل، فلا مستحيلات في السياسة.
المسار الثالث، والذي أحدث زلزالاً سياسياً على مستوى الإقليم نظراً للموقع وللثقل الاستراتيجي لكل من طرفيه في الإقليم، تمثَّل في الاتفاق السعودي الإيراني بمبادرة ورعاية من الصين الشعبية على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما.
مسار لعبت كل من بغداد ومسقط منذ عامين تقريباً دوراً أساسياً في إطلاقه عبر دور المضيف أو دور المسهل.
يدلّ الاتفاق أولاً على الموقع الجديد الذي تحتلّه الصين الشعبية في الشرق الأوسط من خلال العلاقات القوية التي نسجتها مع القوى الإقليمية كافة، والثقة التي تحظى بها من طرف هذه القوى. كما يدل الاتفاق الذي نص على إحياء أطر واتفاقيات التعاون كافة التي كانت قائمة بين الطرفين، على أن إعادة العلاقات إلى طبيعتها تستند على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها، الأمر الذي يعني إعمال القوانين والقواعد والأعراف الدولية التي تحكم وتنظم العلاقات بين الدول، سواء في إدارة الخلافات واحتوائها وتنظيمها والعمل متى أمكن على تسويتها، أم في البناء على المصالح المشتركة وتعزيزها. الأمر الذي ينعكس إيجاباً على ما سبق، وكذلك على تعزيز الاستقرار والأمن في المنطقة. إن مناخ التفاؤل الذي خلقه هذا الاتفاق، والذي، كما أشرنا، هو ثمرة التطورات الحاصلة في هذا الاتجاه في الفترة الأخيرة أعطى زخماً قوياً لإحياء فاعل لمؤتمر بغداد للتعاون والشراكة. المؤتمر الذي انطلق في 28 أغسطس (أب) عام 2021 في بغداد، وشهد دورته الثانية في 20 ديسمبر (كانون الأول) الماضي في البحر الميت. وقد أعلن رئيس الوزراء العراقي عن بداية التحضير للمؤتمر الثالث، وذلك عشية اجتماعات بكين، باعتبار أن المناخات السائدة عشية المؤتمر حملت مؤشرات النجاح.
نتائج «بكين» ستعطي دفعة قوية لأعمال هذا المؤتمر الهادف لتعزيز التعاون والشراكة الإقليمية بصيغ ومجالات وسرعات مختلفة على أساس احترام المبادئ والقواعد والأعراف التي تنظم العلاقات بين الدول، وهي شراكة لمصلحة جميع الأطراف المعنية ولمصلحة الأمن والاستقرار والتنمية في المنطقة.
فهل نحن في عشية ولادة نظام إقليمي جديد قائم على تعزيز الاستقرار الضروري للازدهار؟ الجواب سيأتي في المدى القريب.