أحمد محمود عجاج
TT

الصين وأميركا: إلى أين تقودان العالم؟!

العالم يتغير وبسرعة، وبالذات، بعد الحرب الأوكرانية الروسية، وفي ضوء نذر المواجهة بين الصين وأميركا؛ فالصين تشعر، بشكل متزايد، بخطر تطويقها، وتشعر أميركا بالمقابل بتحدي الصين لهيمنتها، وهذا - كما قال مؤرخ الحرب اليونانية (الهيلينية) ثيوسيديس - سيجعل الطرفين يسعيان لزيادة قوتيهما أكثرَ فأكثر إلى أن تقع المواجهة المحتمة. فقد صرح الرئيس الصيني شي جينبينغ بأن الولايات المتحدة تعمل على تطويق الصين واحتوائها ومنع صعودها؛ وكذلك هدد وزير الخارجية الصيني أميركا قائلاً: ادعاء أميركا بما يحدث بأنه منافسة مع الصين ليس إلا احتواء وتطويقاً وبذلك «نحن نموت وهم يحيون»، وأكد أنه ما لم تضغط الولايات المتحدة على الكوابح، فإننا ذاهبون إلى المواجهة والاقتتال. هذه التصريحات لا يمكن أن تكون عادية لأنها جاءت قبيل انعقاد المؤتمر العام للحزب الشيوعي مما يؤكد أنها مدروسة، وهدفها أن تدرك الولايات المتحدة خطر سياستها تجاه الصين. لكن بمقابل هذا القلق الصيني يوجد قلق أميركي من أن الصين عازمة على تغيير موازين القوى، وتحاول إيجاد نظام دولي متعدد الأقطاب، وتريد نزع الريادة الأميركية على العالم؛ لهذا يوجد إجماع في أميركا على أن الصين خطر استراتيجي حقيقي، وبوجود هاتين القناعتين المتناقضتين يتعذر الوصول إلى حلول وسطى، لأن وجود صوت معتدل في البلدين أصبح متعذراً، لأن أي صوت اعتدال سيتهم صاحبه بالتعاطف مع العدو.
أصبحت الصين، وفق هذا الواقع، تولي الأمن القومي أهمية كبرى تتجاوز أهمية الاقتصاد؛ ففي المؤتمر العام الصيني أكد رئيس الصين أن الأمن هو حجر الأساس، وبذلك طغا مفهوم الأمن على الاقتصاد والسياسة وحتى البيئة وغيرها، مما حدا بالقيادة الصينية أن تضع خطة للنمو الاقتصادي لا يتجاوز 5 في المائة، وهي أقل نسبة نمو منذ عام 1978؛ وهذا مؤشر على درجة الشعور بالخطر، وعلى عزم القيادة على تحويل الصين لمنظومة دفاعية، هدفها الأول والأخير إفشال التطويق الأميركي، واستبدال نظام تعددي الأقطاب ترتاح فيه الصين وتخسر فيه الولايات المتحدة بالنظام العالمي الحالي. وبمواجهة هذا الموقف الصيني كان الرد الأميركي من العيار الثقيل، وذلك بتوقيع الرئيس الأميركي ورئيسي الوزراء البريطاني والأسترالي منذ أيام اتفاقية لتزويد أستراليا بغواصات نووية، من شأنها أن تخل بموازين التفوق الصيني في المحيطين الهادئ والهندي. كما فرضت الولايات المتحدة، وبمشاركة حلفائها، الكثير من القيود (Century List) على الشركات الصينية، ومنعت التكنولوجيا المتطورة عنها، وهددت بعقوبات على الصين إذا ما ساعدت علانية روسيا في الحرب الدائرة مع أوكرانيا، وتعمل أميركا أيضاً على جذب الهند وغيرها من دول شرق آسيا لحلف دفاعي، طالما أن تلك الدول تخشى التمدد الصيني. هذه الخطوات كلها تدركها الصين، وتعرف أنها بمثابة شد الخناق على رقبتها، وأن المواجهة برأيها أصبحت محتمة؛ لذلك كان رد الصين بتوسيع مداها الحيوي عبر مبادرتين دبلوماسيتين هما: حل الأزمة الأوكرانية وحل الخلاف السعودي الإيراني.
هاتان المبادرتان مهمتان للعالم في حال نجاحهما؛ فالحرب الأوكرانية الروسية أدت إلى تضخم هائل تضررت منه كل الدول، وبالذات الدول النامية والفقيرة، وهُدرت فيها أموال طائلة كان ممكناً أن تستخدم في الاستثمار والتنمية البشرية، وكذلك مبادرة حل الخلاف السعودي الإيراني ستؤدي، في حال نجاحها، وهو أمر ليس بالهين بسبب آيديولوجية الدولة الإيرانية، إلى انتعاش في الشرق الأوسط، وإعادة إعمار لما دمرته الحروب؛ لكن المبادرتين تأتيان في سياق تنافس حامي الوطيس بين الصين وأميركا، فأميركا تعتبر المبادرة الروسية لأوكرانيا فاشلة قبل أن تبدأ لأنها لم تشترط انسحاب القوات الروسية من الأراضي الأوكرانية، ولأنها اشتملت على حق الروس في أن تكون لهم منطقة نفوذ في الدول المجاورة. هذا يعني إبعاد حلف الناتو عن أوكرانيا، وتقوية روسيا حليفة الصين. أما في الشرق الأوسط، فإن الولايات المتحدة لم ترفض المبادرة، بل شككت في نجاحها، لأنها مقتنعة بأن إيران لن تسحب نفوذها عبر الميليشيات في المنطقة، ولأنها لن تقبل بالحد من برنامجها النووي، وهكذا فإن المبادرة برأي أميركا ستفشل، وحتى إن لم تفشل ستعمل على إفشالها، لأنها تعتبرها مناورة صينية للتمدد في منطقة تعتبرها أميركا والغرب حيوية لأمنهما واقتصادهما وريادتهما العالمية؛ هكذا لم يعد للدبلوماسية أي جدوى.
إن العالم دخل مرحلة جديدة من المواجهة، وسيصبح أقل أماناً وأكثر فقراً، فما نراه تزايد للتسلح في كل أنحاء العالم، وذلك مرده الشعور العام بغياب قوة كبرى (شرطي العالم) تفرض على الجميع شروط اللعبة. كما سيجبر اشتداد المواجهة معظم الدول، إن لم يكن كلها، على التمحور حول الأقطاب المتصارعة، وبذلك نعود إلى لعبة الحرب الباردة، وزيادة بناء الترسانات العسكرية فائقة التطور والقادرة على تدمير الأرض مرات عديدة.
ولكيلا تتدهور الأمور أكثر فإنه لا بد من أمرين ضروريين: أولاً أن تعمل الدول المتضررة من الصراع على إقامة كتلة حيادية، تضمن لها مصالحها، وتحمي بها نفسها. وثانياً أن تعي الصين وأميركا خطورة تغليب الخطاب الشعبوي على المنطق السياسي الواقعي؛ فالسياسة تستوجب أن تدرس أميركا التحدي الصيني بكل تكاليفه وتبعاته وبعدها تضع السياسة الاستراتيجية المناسبة لا أن تتصرف بداعي الخوف، كما فعل الرئيس ترمب بفرضه، كمثال، ضرائب على الصين ألحقت الضرر بأميركا أكثر من الصين، وكذلك خطابه الشعبوي أجبر الرئيس بايدن على متابعة سياسة التشدد كيلا يتهمه الجمهوريون بمحاباة الصين.
ويتوجب، بالمقدار ذاته، على الصين أن تتنبَّه لخطورة سياساتها في محيطها الجغرافي، وتعي قلق جيرانها إزاء تمددها الجغرافي، وألا تهدد تايوان بالقوة، ولا تعمل على تغيير النظام العالمي القائم الذي كان سبباً في صعودها الباهر.
ما لم تلتزم أميركا والصين بهذين الشرطين فإنَّ مستقبلاً قاتماً ينتظرنا جميعاً.