فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

تحدٍ أميركي في سوريا

مرة جديدة يتنفس المراهنون على الدور الأميركي في سوريا الصعداء بعد ما حصل في واشنطن، حيث صوَّت مجلس النواب الأميركي الأسبوع الماضي بالرفض على مشروع قانون، يفرض على الإدارة الأميركية سحب قواتها من سوريا، وكانت النتيجة تصويت 321 عضواً برفض المشروع مقابل 103 أعضاء وافقوا عليه.
مسعى بعض الأميركيين لخروج قواتهم من سوريا، أمر تكرر مرات في سنوات وجودها، وقد يتكرر في المستقبل ما دامت القوات الأميركية موجودة، بسبب اختلافات في المواقف وفي وجهات النظر حول السياسات الأميركية في الخارج وفي سوريا خصوصاً، وقد شهدت سياسات واشنطن الخارجية في كثير من محطاتها منذ مجيء الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض ارتباكات وصلت حد التناقض والالتباس، ولعل سياسة واشنطن في القضية السورية مثال واضح، تكررت مشاهده (ولو باختلافات طفيفة) في ظل الإدارات الثلاث الأخيرة.
يتضمن السياق العام للسياسة الأميركية في سوريا في خلاصاته منذ عام 2011 مغازلة واشنطن للحراك الشعبي في مظاهراته واحتجاجاته على سياسات الأسد، ولم يتأخر مسؤولون أميركيون في إطلاق تصريحات تدين النظام ورئيسه، وصولاً إلى قول إن أيامه باتت محدودة، وشمل السياق العام تأييد المعارضة، وخاصة ما تأسس منها تحت عيون واشنطن وبحضورها إلى جانب قوى دولية وإقليمية، ولم يقف الأمر عند المعارضة السياسية وبينها المجلس الوطني ثم الائتلاف الوطني، بل شمل المعارضة المسلحة، التي تلقت جماعاتها من تنظيمات «الجيش الحر» مساعدات أميركية كثيرة ومتنوعة، وتمت مشاركتها في غرفتي العمليات العسكرية في تركيا والأردن.
لقد عجزت سياسات واشنطن السورية، أن تخلق أي نتائج عملية وإيجابية في الصراع السوري وحول سوريا، ليس فقط نتيجة بطئها وترددها وسط مسوغات وأعذار وظيفية، بل أيضاً بسبب سكوتها عن سياسات دولية وإقليمية ومحلية، دفعت الصراع نحو الأسلمة والتطييف بعد عسكرته؛ مما أدى إلى خلق وتدعيم جماعات التطرف والإرهاب، والدفع بها لتكون في واجهات الصراع، وقوى أساسية فيه، وبخاصة تنظيما «داعش» و«النصرة»، وكانت تلك بين عوامل حافظت على نظام الأسد، ومنعت سقوطه.
لم يكن ما تقدم سوى الوجه الأكثر بروزاً في سياسات واشنطن السورية، وقد تضمنت شقاً أعتقد أنه الأخطر، يبدو في السكوت عن التدخلات الداعمة نظام الأسد، والتي وصلت حد الظهور وكأنها تأييد تدخلات، بدأتها ميليشيات «حزب الله» اللبناني وشقيقاته من ميليشيات شيعية للقتال إلى جانب الأسد في سوريا، ثم جاء التدخل الإيراني المباشر، وأعقبه التدخل الروسي الواسع في 2015، وأدت التدخلات بما فيها من أبعاد سياسية وعسكرية وأمنية ثم اقتصادية إلى منع سقوط النظام، وتكريس جرائمه، واستعادة سيطرته على أجزاء واسعة من البلاد، وإطلاق مساعي تطبيع علاقاته الإقليمية والدولية.
إن دلالة السياق العام للسياسات الأميركية بعد التدخل العسكري الروسي عام 2015، عبّرت عن نفسها في انسحاب من التدخل الكثيف والمباشر في الملف السوري، والتحرك في حوافه عبر ثلاثة من مسارات، أولها تركيز جهدها في دعم الحرب على «داعش» والذي ظهرت نتائجه واضحة فيما قامت به «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في الحرب وسط دعم أميركي - دولي مباشر، والثاني توفير رعاية ودعم لحلفائها في سوريا وأبرزهم «قسد» في مواجهة التطورات السياسية والميدانية بما لا يجر واشنطن للقيام بدور ملموس، والثالث البقاء على خط مراقبة التطورات السياسية والميدانية في الصراع السوري؛ تجنباً لأي احتمالات لا توافق عليها واشنطن، وفي ضوء هذا المسار يمكن رؤية ما أعلنته في معارضة التطبيع مع الأسد، ورفض أفكار إعادة بناء سوريا قبل شروع نظام الأسد بالسير في اتجاه الحل السياسي وفق محتوى القرار الدولي 2254.
ومما لا شك فيه، أن مسارات واشنطن بما اتصفت به من ارتباك وضعف وتناقض، عززت رغبة أوساط سياسية أميركية في دفع الإدارة إلى انسحاب من سوريا، غير أن أوساطاً أخرى وبخاصة داخل المؤسسة العسكرية، كانت مع البقاء الأميركي، ولا شك في أن نتائج زيارة رئيس الأركان إلى شرق سوريا، وإعلانه زيادة عدد العسكريين الأميركيين فيها مؤشر مهم، يعكس إدراكاً مختلفاً، ليس لأهمية الوجود العسكري الأميركي مقروناً بأمرين، الأول هو التبدل في النظرة الأميركية - الإسرائيلية للوجود والدور الإيراني وسط احتمالات حرب ضد إيران في سوريا، والآخر تأكيد الوجود الأميركي مقابل الوجود الروسي في ظل الحرب الروسية على أوكرانيا، بمعنى حرص واشنطن على تجنب أي انسحاب في مواجهة موسكو، تجعل الأخيرة منتصرة ولو شكلياً في سوريا.
وكما هو واضح، فإن الوضع السوري، لا يحتل أي موقع مباشر، يتصل باهتمام واشنطن ووجودها العسكري، بل يتعلق أساساً بقوى التدخل الخارجي الإيراني - الروسي من ناحية، ويتعلق من ناحية أخرى بالحرب على «داعش» وأدوات واشنطن في تلك الحرب، وأبرزها «قوات سوريا الديمقراطية» في وقت ينحصر فيه الاهتمام السياسي بالقضية السورية بإعلانات من الواضح محدودية تأثيراتها مثل العقوبات على نظام الأسد وشخصيات فيه، وقانون قيصر وقانون الكيماوي، والتحفظ على التطبيع مع نظام الأسد.
وسط واقع السياسة الأميركية الراهنة في سوريا وحولها، يتقدم سؤال عن أهمية هذه السياسة، ويتقدم معه سؤال آخر، يتعلق بأهمية ما صدر عن مجلس النواب الأميركي من قرار برفض الانسحاب الأميركي من سوريا؟
إن سياسة واشنطن المطبقة، تمثل أدنى ما يمكن من مستوى لواشنطن في التأثير على القضية السورية واحتمالاتها المستقبلية، وهذا تحدٍ حقيقي، يتناقض مع مكانة الولايات المتحدة ودورها في السياسة الدولية والإقليمية، التي تواجه اليوم تطورات، لم يعد بإمكان واشنطن تجاهلها أو السكوت عنها، وبينها تواصل الحرب في أوكرانيا والشراكات المتصلة بها، ولا سيما الشراكة الإيرانية - الروسية، وما يمكن أن يتمخض عنها من نتائج، وكذلك التجاذبات الجارية في الخريطة العالمية، والتي يسير بعضها نحو تحالفات أو تجاذبات في خطوط تواجه واشنطن، وقريباً من هذا السياق يمكن رؤية أبرز تحركين في شرق المتوسط حدثا مؤخراً، ولهما صلة وثيقة بالقضية السورية، الأول ضم إيران إلى الفريق الثلاثي الروسي - التركي مع نظام الأسد في موضوع تطبيع العلاقات التركية مع نظام الأسد، والآخر قيام الصين في خطوة غير مسبوقة برعاية إعادة تطبيع العلاقات السعودية - الإيرانية، والتي أكدت مخرجات مباحثاتها على آثار إقليمية واسعة، يشكل الوضع السوري مفصلاً رئيسياً فيها.
سياسة واشنطن في شرق المتوسط وفي سوريا، صارت أصعب من أن تستمر في مساراتها السابقة، وإذا كان قرار مجلس النواب الأخير قد أشّر إلى ضرورة الإبقاء على الوجود الأميركي في سوريا، فإنه يؤكد في مؤشر آخر على ما ينبغي أن يكون عليه الدور الأميركي من فاعلية وتأثير، ليس من أجل إنهاء المعاناة السورية والترديات المتزايدة وانعكاساتها في المحيط، بل من أجل تأكيد حضور ودور واشنطن في المنطقة الذي لم يعد يحتمل المزيد من التراجعات والخسارات وخاصة في سوريا، التي ما زالت قضيتها بانتظار دور أميركي فاعل ونشط لا يحل مشاكلها فقط، بل يعالج مشاكل أخرى مرتبطة بها.