ماريو فارغاس يوسا
روائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».
TT

ذكرى سنوية

منذ عام وبضعة أيام، أقدمت قوات فلاديمير بوتين على اجتياح أوكرانيا. غالبية الناس كانت تتوقع أن يكون الاجتياح مجرد نزهة بالنسبة للقوات الروسية، لكن أذهلتها المقاومة الأوكرانية الباسلة التي صمدت في وجه الهجوم، بل كادت تلحق الهزيمة بالمعتدين الذين تكبدّوا خسائر فادحة لم تصل إلينا معلومات كثيرة عن تفاصيلها، إذ من البديهي أن يحرص الكرملين على إخفاء الحقائق بتوجيه من بوتين.
تفيد إحدى الصحف بأن فريقاً من الشباب الأوكرانيين تمكن من إصلاح شبكة الاتصالات التي كانت القوات الروسية قد عطّلتها، وأن النصر العسكري الذي حققه الأوكرانيون في كييف كان بفضل تلك العملية. على أي حال، فشل الهجوم الروسي على كييف وانتهت المعركة بمقتل واعتقال زهاء مائة ألف جندي روسي حسب معظم التقديرات، فضلاً عن الأراضي التي تمكّن الأوكرانيون من استعادة السيطرة عليها منذ بداية الحرب. واستناداً إلى وزارة الدفاع البريطانية، فإن القوات الروسية لا تسيطر حالياً على أكثر من 18 في المائة من أراضي أوكرانيا المعترف بها دولياً، بما فيها دونباس وشبه جزيرة القرم اللتان كانتا تحت السيطرة الروسية منذ سنوات.
ما الذي سيحصل الآن؟ الصين اقترحت «خطة سلام» تشمل وقفاً لإطلاق النار ورفع العقوبات، لكن أحداً لا يثق بهذه الخطة، بدءاً بالولايات المتحدة، ومن المحتمل أن تستمر العمليات العسكرية التي ستسقط فيها أعداد كبيرة من الجنود الروس. وليس مستبعداً أن يواصل بوتين، غير مكترث، إرسال الشباب من مواطنيه إلى الموت في الحرب أو إلى السجون. لكن أولئك الشباب لهم آباء وأمهات وأقارب لا بد أن ينفجروا غضباً ذات يوم أمام هذه المجازر. وعندما يحصل ذلك، فقد ينتهي فلاديمير بوتين في الزنزانة نفسها التي يوجد فيها اليوم المعارض ألكسي نافالني إذا كان الشعب ما زال قادراً على الانتفاض ضد الذي أعلن حرباً ضده. ولا شك في أن الشعب الأوكراني ليس قادراً وحده على الوقوف بوجه هذا الهجوم الشرس، ويعتمد في مقاومته على إمدادات الأسلحة التي تقدمها له الدول الغربية، التي تضافرت بالإجماع لمساعدته من أجل الدفاع عن نفسه. ويعتبر الغرب أنه بمساعدة أوكرانيا يدافع عن ذاته، لكن هذا الدعم الغربي له حدوده التي لم تعد بعيدة، وبالتالي فإن القدرة الدفاعية للحكومة الأوكرانية قد تكون أشرفت على النفاد. وإذا استمر بوتين في السلطة، وأصرّ على المضي في هذيانه أمام بسالة الأقلية المحاصرة، فستصبح كل الاحتمالات واردة.
اللجوء إلى الابتزاز بالتهديد النووي حاضر دائماً، لكن هل سيقدم بوتين على مثل هذه الخطوة الانتحارية؟ لا شك في أنه إنسان مريض، وإذا لم يبادر الشعب الروسي إلى ردعه، فقد يشعل شرارة الحرب العالمية الثالثة التي ستقضي على جزء كبير من البشرية وتمحو روسيا من خريطة العالم. هل من الممكن أن الشعب الروسي، الذي خضع لنظم الاستبداد، سيقبل في مثل هذه الظروف أن يساق إلى حتفه خانعاً ومن غير مقاومة؟ نعم، هذا ممكن. فالشعب الروسي تعرّض طوال قرون لأنظمة ديكتاتورية غير مسبوقة، مع بعض الاستثناءات الديمقراطية القصيرة كتلك التي عاشها خلال حكم بوريس يلتسين لسنوات معدودة، من غير أن يرفع رأسه ويقاوم. وليس مستبعداً أن يواصل السير في ركاب زعيمه المتهور، ويستمر في تأييده ويرضى بالفناء وراء سعيه للسيطرة على أوكرانيا بأي ثمن.
لكن في حال عدم حدوث ذلك، والمؤشرات تدلّ على أنه لن يحدث، ما حظوظ السير في الاتجاه المعاكس؟ أي أن تُطرح خطة سلام تعكس الواقع الميداني في ساحة القتال، بوساطة الصين، تدفع روسيا لإعادة جميع الأراضي التي تعتزم السيطرة عليها لحكومة فولوديمير زيلينسكي. هذا هو السبيل للتوصل إلى حل فوري لهذه الحرب العبثية التي يخسر فيها الطرفان المتنازعان مئات الضحايا كل يوم، إلى أن يقع حادث يؤدي إلى ما يتداوله العالم منذ بداية الغزو مطالع العام الماضي، أي إلى تفاقم المواجهة ونشوب حرب عالمية ثالثة تستخدم فيها الأسلحة النووية ولا يبقى أحد في مأمن منها، وتعيد العالم إلى عصر بدائي على جثث الملايين من الضحايا.
قد لا تصل الأمور إلى هذا الحد من التصعيد وتجنح نحو التهدئة حول طاولة المفاوضات. لكن، ماذا لو لم يحصل ذلك؟ بوتين ليس في كامل اتزانه، ومن المحتمل أن يستمرّ في الإصرار على وهمه بالسيطرة على كامل أوكرانيا. مثل هذا الوهم وارد، لكنه غير قابل للتحقيق. بوتين يدرك جيداً أنه في خطر إذا استمرت قواته تواجه الانتكاسات، ولذلك يهدد بالتصعيد. والشعب الأوكراني أظهر حتى الآن ثباتاً غير مسبوق في النضال والدفاع، ولا بد أن ذلك من شأنه إقناع سيّد الكرملين بأن هدف السيطرة على أوكرانيا التي تقاومه بكل ما أوتيت، ليس في متناوله، وهو مرفوض من الغرب الذي، لأول مرة، استشعر خطر الانسياق وراء الطاغية، وتحرّك على الفور بتقديمه السلاح إلى أوكرانيا وشارف على المشاركة في العمليات العسكرية.
أرى حولي موقفاً كاد يختفي من هذه الحرب، أو عبر فيها بشكل ثانوي وخاطف. وأعتقد أنه ليس بذلك، بل إن فلاديمير بوتين ما زال مصرّاً على رؤيته الأولى، وإنه ليس مستعداً لوقف العمليات العسكرية. لكن ماذا سيحصل خلال فترة استمرار المعارك إذا دفعته تطورات الحرب إلى اللجوء لاستخدام الأسلحة النووية التي يهدد بها؟ أعتقد شخصياً أن روسيا، في تلك الحالة، سوف تتعرّض للدمار الشامل على يد القوات الغربية، لكني لست على يقين من أن هذه الأخيرة سيكتب لها البقاء للاحتفال بالنصر. والأرجح أن العالم سينهار على سكانه مع حظوظ شبه معدومة بالنهوض.
هل من الممكن أن نصل إلى مثل هذا السيناريو؟ لا رغبة عندي في الاستمرار بطرح مثل هذه الفرضيات البشعة، لكن إذا انهار هذا العالم الذي نعيش فيه، فسيكون إنهاضه طويلاً وعسيراً جداً، وسننسى أوكرانيا وفلاديمير بوتين، لأن القلق سيتملكنا جميعاً لإيجاد المخرج من هذا الرعب الذي سيحيط بنا من كل جانب كسيل من النيران والحمم فوق الأرض التي نعيش اليوم فوقها.
من الأفضل عدم الوصول إلى هذا الحد من البؤس والبطولة، ويستحسن أن تنتهي هذه الحرب حيث بدأت، وأن يقتنع بوتين والقلّة التي تفكّر مثله، بمغادرة أوكرانيا، وعندئذ تسير كل الأمور نحو الأفضل.