حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

إسرائيل تأكل نفسها من الداخل

لشهور طويلة متتالية لم تتوقف المظاهرات الحاشدة في إسرائيل والمعترضة على توجهات وسياسات حكومة بنيامين نتنياهو الائتلافية المتطرفة والمثيرة للجدل التي تهدد، بحسب تصوراتهم، بخسارة جميع المكتسبات والحقوق الديمقراطية وتأمين فصل السلطات إذا ما نفذت حكومة نتنياهو قراراتها ووضعت المحكمة العليا في إسرائيل تحت سيطرتها.
إسرائيل التي كانت تفتخر وتروج لنفسها أنها الديمقراطية الوحيدة وأنها تتبع النهج الليبرالي الرأسمالي وأنها دولة علمانية حقيقية يفصل فيها الدين عن الدولة، تشهد انهياراً بطيئاً وتآكلاً سريعاً لكل ذلك.
قامت وأسست إسرائيل على مبدأ سياسي وهو حق الشعب اليهودي المشتت حول العالم في وطن يجمعهم ومنذ وصول حزب الليكود في نهاية السبعينات الميلادية من القرن الماضي إلى سدة الحكم كأول حزب ديني، بدأت إسرائيل بالتدريج في التحول إلى دولة دينية تحكمها تفسيرات تلمودية معادية وشديدة التطرف.
وهذا التحول الحاد بات رعباً لعدد غير قليل من الإسرائيليين، وهو الذي جعل المؤرخ الإسرائيلي الشهير يوفال نوح هاراري يصف ما يحدث بأنه «انقلاب ضد الديمقراطية، وكل عمالقة اقتصاد التقنية الحديثة في إسرائيل يدركون تماماً أنه من دون قضاء مستقل ومجتمع ديمقراطي ستكون جميع صناعاتهم في خطر كبير».
وهو هنا يشير إلى فخر الاقتصاد الإسرائيلي الذي شهد ثلاثة عقود من النمو غير المسبوق بسبب تألق قطاع التقنية الحديثة، الذي تسبب في معدلات نمو غير مسبوقة تراوحت بين 5 و7 في المائة سنوياً، وبات يشكل أكثر من 54 في المائة من إجمالي الصادرات ويوظف أكثر من عُشر القوى العاملة.
وهي التي صرفت على هذا القطاع لدعمه أكثر من 15.5 مليار دولار، رغم انتكاسة القطاع حول العالم، ومع ذلك يعتبر ما تصرفه إسرائيل على هذا القطاع أكثر من 5.4 في المائة من إجمالي الناتج العام، وهو أعلى من أي دولة صناعية في العالم.
ولكن تدخل الحكومة في الشأن القضائي وتهديدها له، أرسل رسالة خطيرة لقطاع التقنية في إسرائيل، وجعل بعضاً منه يعيد حساباته ويبدأ في إجراءات الانتقال إلى المملكة المتحدة أو قبرص أو إسبانيا أو الولايات المتحدة الأميركية.
والمثال الذي يتداوله الإسرائيليون بكثرة هذه الأيام لتصوير فداحة وخطورة الوضع هو قصة شركة «ويز» الإسرائيلية المتخصصة في الأمن السحابي والمقيمة بعشرة مليارات دولار أميركي، التي تمكنت مؤخراً من الحصول على استثمارات بـ300 مليون دولار، صرحت الشركة بأنها لن تحول أياً من الأموال التي حصلت عليها لإسرائيل طالما بقي الوضع القضائي على ما هو عليه. وأضاف عساف رابابورت الرئيس التنفيذي للشركة أن «الوضع القضائي الحالي في إسرائيل هو خطر وجودي يفوق خطر الصواريخ الباليستية».
لسنوات طويلة جداً استفادت إسرائيل مما يسمى «عدم الأمان الخلاق»، فهي مثلها مثل دول ككوريا الجنوبية التي تتفوق تقنياً، بينما تعيش تحت تهديد كوريا الشمالية وتايوان المتفوقة تقنياً رغم التهديد الصيني، وبالتالي استغلت إسرائيل وضعها الأمني «المهدد» بحسب ما تروج واستثمرت بقوة في قطاع التقنية الحديثة، ما جعل الشركات الإسرائيلية في هذا القطاع تحقق مكاسب نوعية غير مسبوقة. ولكن الآن الوضع مختلف؛ دور الاقتصاد الإسرائيلي مهدد بشكل غير مسبوق وما تم بناؤه عبر ثلاثة عقود سيهدم في أيام. تهديد غير مسبوق لإسرائيل يتسبب فيه جناحها غير المسالم المتطرف الذي أدى إلى شرخ عظيم في إسرائيل نفسها.
نجوم عالم الأعمال في قطاع التقنية الإسرائيلي هم أيقونات النجاح فيها، وأهم من نجوم الغناء والرياضة والتمثيل، وهم الذين صنعوا قصة تحول الاقتصاد الإسرائيلي، وأصبح يطلق عليها «دولة الانطلاقة» the start up nation في إشارة إلى النجاح والتفوق الكبير لشركات التقنية فيها، واليوم هذا القطاع نفسه هو الذي يلوح بالأعلام الحمراء منذراً بالخطر الوجودي على إسرائيل نفسها والقادم من الداخل، ولعل أبرز دليل لخطورة ما يحدث هو تلك الرسالة التي بعث بها مدير شؤون التطوير في إحدى شركات التقنية لزملائه بقوله «أكتب لكم من أميركا التي انتقلت إليها، فإسرائيل تسير في خط النهاية ولم تعد لنا».