أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

حول العقوبات على سوريا!

يبدو أن كارثة الزلزال المدمر، لم تفتح الباب على واجب المساعدات الإغاثية للمناطق المنكوبة فحسب، بل بدا لافتاً حضور حملة سلطوية ممنهجة تعمدت استثمار تلك اللحظة الإنسانية المؤلمة، للمطالبة برفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا، ولم تهدأ، على الرغم من مسارعة غالبية الدول، لتخفيف هذه العقوبات أو تجميدها مؤقتاً، بل العكس، ازدادت حدة واتسعت لتخلط الحابل بالنابل وتجرف في طريقها العديد من الوقائع والحقائق.
أولاً، من التجني وضع إشارة مساواة بين العقوبات وأسباب تردي الوضع الاقتصادي في سوريا، وتالياً الترويج لرأي يقول بأن هذه العقوبات هي التي أوصلت الأوضاع المعيشية للسوريين إلى الدرك المقيت الذي وصلت إليه، في محاولة، قد تكون بحسن نية أو سوء نية، تبرئة النظام وتحريره من المسؤولية الأساسية، إن باستباحته البلاد قمعاً وتدميراً، وإن بتسخيره الاقتصاد في معركة الحفاظ على تسلطه، ومنح الأولوية لتعزيز قدراته العسكرية والأمنية على حساب الوفاء لاحتياجات المجتمع الأساسية، فكيف الحال حين نتذكر أن النظام نفسه هو الذي دأب على السخرية من تلك العقوبات حين أُقرّت، وتباهى بأن لا جدوى منها ولا تأثير لها، ما دامت لم تمنع رجالاته من استمرار نهب المال العام وسرقة ثروات الوطن وممتلكات الناس، ولم تعق أمراء الحرب عن استجرار ما يلزمهم لبناء القصور الفارهة والمنتجعات الفخمة.
صحيح أن العقوبات الحالية على سوريا تندرج عموماً في إطار العقوبات الموجهة بغرض التضييق على النظام سياسياً وعسكرياً، ومحاصرة قدرته على إعادة إنتاج قوى القهر والسيطرة، مستهدفة تقييد القدرة الاقتصادية للدولة وعمليات الاستيراد والتصدير والتوريدات العسكرية والموارد النفطية والنظام المالي، والأهم معاقبة مسؤولين سوريين كان لهم دور فاعل في التدمير والفتك والتنكيل، لجهة تجميد أرصدتهم وحظر التعامل معهم ومنعهم من السفر إلى البلدان الغربية، لكن الصحيح أيضاً أن هذه العقوبات في ظل سلطة تحتكر الاقتصاد والعمليات التجارية والمالية، كان لا بد أن تنعكس سلباً على حياة الناس والفئات المهمشة من المجتمع، لتعزز بعض ظواهر معاناتهم المعيشية، إن بتراجع القدرة الشرائية وإطلاق جنون الأسعار، وإن بتنامي ظاهرة البطالة واضطرار العديد من المنشآت الاقتصادية لإغلاق أبوابها، زاد الطين بلة دأب السلطة على إهمال واجباتها تجاه البشر، بتوفير شروط العيش الكريم وفرص العمل والخدمات والمرافق الضرورية؛ ما يؤكد حقيقة أقرّها غالبية المحللين الاقتصاديين بأن هذه العقوبات على تنوعها وشدتها هي في جوهرها أضعف الأسباب تأثيراً على تدهور الوضع المعيشي السوري.
ثانياً، من الضروري عند مناقشة العقوبات على سوريا وضعها في سياقها التاريخي، والذي يعني ربط تواتر إقرارها بتصاعد عمليات القمع والتدمير التي استباحت بها سلطة دمشق المجتمع، فإذا تجاوزنا العقوبات التي حملت اسم «قانون محاسبة سوريا» وأُقرّت عام 2004 لمحاصرة تغول النظام السوري في لبنان، فإن طليعة العقوبات عام 2011، جاءت بعدما أفشل النظام المبادرة العربية لحلحلة الأزمة، وأصرّ على الذهاب بعيداً في العنف لسحق حراك الناس وإجهاض مطالبهم المشروعة، قبل أن تتخذ غالبية الدول الغربية عقوبات جديدة كرد على تصاعد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبتها السلطة السورية والكيانات المرتبطة بها، وشددت أكثر بعد استخدام السلاح الكيماوي، ثم مع إصدار «قانون قيصر» إثر تسرب عشرات آلاف الصور لبشر عُذّبوا حتى الموت في أقبية الأجهزة العسكرية والأمنية السورية، وعززها أخيراً «قانون الكبتاغون» لمحاصرة الأذى الذي يسببه الترويج السلطوي الممنهج للمخدرات في سوريا وبلدان الجوار، والقصد من عرض السياق التاريخي لتطور العقوبات لحظ أنها لم تأتِ من سماء صافية، بل ارتبط إقرارها كما تشددها واتساعها طرداً مع ازدياد توغل النظام في القمع والتدمير والقتل والاعتقال وكرد متواضع من قِبل المجتمع الدولي لأداء واجبه في الدفاع عن حياة المدنيين؛ ما يعني أن رفعها لا بد أن يقترن بداهة، بتبدل ملموس في سلوك النظام القمعي أو بالحد الأدنى معالجة ملف المعتقلين السياسيين وكشف مصير المفقودين، وإخضاع المرتكبين من أفراد وجماعات للمساءلة والمحاسبة، وإلا سيغدو الأمر كما لو أنه تفريط بحقوق ملايين الضحايا والمعذبين، ومكافأة للنظام على ما ارتكبه بحق الإنسان والإنسانية.
ثالثاً، يفترض التمييز بين الدعوة لرفع العقوبات أو تخفيفها لتسهيل عمليات الإغاثة، وبين التطبيع أو الانفتاح السياسي على النظام... وهنا تتوارد الأسئلة، لماذا يفترض أن يفضي رفع العقوبات أو تخفيفها لأسباب إنسانية فرضتها كارثة الزلزال إلى خلط الأوراق؟ ولم يجب أن تنتج هذه الكارثة موقفاً سياسياً جديداً يدعو لتطبيع مجاني مع نظام لم يتقدم خطوة واحدة في وقف عنفه والتعاطي مع القرارات الدولية وأهمها القرار 2245؟ هل هو خيار معقد وصعب حين يجمع المساندون للشعب السوري والراغبون في تخفيف ما يكابده، بين تقديم المساعدات الإغاثية الإنسانية، وتأكيد القطع السياسي مع سلطة دمشق حتى تمتثل لقرارات الأمم المتحدة؟ والأسوأ أن هذه السلطة تتعامل مع جهود الانفتاح من موقع المنتصر، معتقدة أنه ليس خياراً أمام الآخرين، بل واقع مفروض عليهم، بدليل ما تطالب به من تنازلات اقتصادية وسياسية مقابل ما تقدمه من «تسهيلات بسيطة» على الصعيد الإنساني.
«لا تجرب المجرب» هو مثل شعبي يجب ألا يغيب عن بال كل من يسوغ الانفتاح على النظام السوري ويتوخى إعادة تأهيله، ليس فقط لأنه نظام مُنح فرصاً عديدة وجُرّب مراراً ولم يكشف عن صدقية تذكر، أو لأنه نظام تعجنه بنية عسكرية وأمنية لا تهمها سوى مصالحها الضيقة والأنانية، وخلفت بعنفها الوحشي، حصيلة مرعبة من الدمار والضحايا والمعتقلين والمغيبين والمشردين، وإنما أيضاً لأنه نظام مرتهن، فرط بكل القيم الوطنية، غير راغب ولا قادر على تحجيم النفوذ الإيراني كما يعول البعض، فحضور إيران في سوريا لم يعد مجرد نفوذ، بل صار أشبه بقوة احتلال تتحكم بمفاصل الدولة وتتغول عسكرياً وأمنياً واقتصادياً، واستسهلت هتك الروابط المجتمعية عبر التسعير المذهبي وخطط التغيير الديموغرافي، لتغدو المعادلة واضحة وبسيطة: لا يمكن مواجهة التغلغل الإيراني ومحاصرته من دون إحداث تغيير سياسي في سوريا!