جمال الكشكي
رئيس تحرير مجلة «الأهرام العربي». عضو مجلس إدارة مؤسسة الأهرام. عضو مجلس أمناء الحوار الوطني. عضو لجنة تحكيم جائزة الصحافة العربية. عمل مذيعاً وقدم برامج في عدة قنوات تليفزيونية.
TT

اللعبة صفرية في الأزمة الأوكرانية

على مائدة الإفطار في أحد أيام المنتدى السعودي للإعلام، التقيت مجموعة من كبار الكتّاب والصحافيين، لا حديث يدور سوى عن الأزمة الروسية - الأوكرانية، تدفقت علينا وسائل الإعلام بأخبار الحرب، جميعها أخبار تصيب بالحيرة وتدفع إلى علامات استفهام، لا أحد يملك حولها إجابات فاصلة.
سألت أحد الجالسين: هل تتوقع نهاية قريبة لهذه الحرب؟ حدق بعينيه، وصمت لوهلة، ثم أجابني: السؤال صعب، فالمشهد غاية في التعقيد، كيف يتحقق السلام في ظل تمسك كل طرف بأحقيته فيما يراه حقوقاً سيادية وحصرية، وجزءاً من خرائطه التي يستحيل أن يتنازل عنها؟ ثم واصل أسئلته: هل تعتقد أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقبل بالتنازل والتخلي عن الأراضي التي حصل عليها؟ وهل تعتقد أن الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينيسكي يقبل أيضا بأن يتنازل عن نحو 16 في المائة من أراضيه؟، قلت له: أسئلتك مشروعة، فالسلام يحتاج إلى تنازلات، والمشهد الحالي يقول إن الطرفين لن يتنازلا، ومن ثمّ فإن الكلام عن نهاية وشيكة للحرب، بات أمرا بعيدا إلى حد ما، على الأقل حتى الوصول إلى معركة الربيع التي يراهن عليها الطرفان.
كل المؤشرات، تقول إن اللعبة باتت صفرية في هذه الأزمة، فأطروحات الجانبين لم تبرح مكانها، فلو توقفنا أمام الموقف الروسي، نجد أنه أسير مجموعة من الضغوط التي تمنعه من تقديم أي تنازلات في الوقت الراهن.
أول هذه الضغوط ينطلق من أن الدستور الروسي يمنع الرئيس بوتين والقيادة الروسية، من التخلي عن أي أراضٍ روسية، وهذا الشرط سابق لاندلاع الحرب في الرابع والعشرين من فبراير (شباط) عام 2022. وهذا الوضع ازداد صعوبة وتعقيدا بعد قرار مجلس «الدوما» باعتبار المناطق الأربع: «لوجانيسك، ودونيتسك، وخيروسون، وزابوروجيا»، أراضي روسية.
ثاني هذه الضغوط أن الدستور الروسي، يفرض الدفاع عن أي مواطن روسي، أو من أصول روسية في أي مكان في العالم، وليس داخل حدود روسيا الفيدرالية فقط، ولهذا يعتقد الرئيس بوتين أنه كان مضطرا للذهاب إلى أوكرانيا للدفاع عن المواطنين الروس في هذه المناطق الأربع التي بها غالبية ناطقة باللغة الروسية.
ثالث هذه الضغوط، يتعلق برؤية وزارة الدفاع الروسية أن انضمام أوكرانيا إلى «الناتو»، ونشر أصول عسكرية لحلف الأطلسي شرق أوكرانيا، يمثلان تهديدا وجوديا للكتلة السكانية الكبرى في غرب روسيا، لا سيما في مناطق موسكو وسكان سان بطرسبرغ، فحسابات وزارة الدفاع الروسية، تقول إن صواريخ الناتو في الظروف الحالية تحتاج إلى نحو 14 دقيقة حتى تصل إلى العمق الروسي، في حين أنه لو سيطرت أوكرانيا على شبه جزيرة القرم مرة ثانية، فإن هذه الصواريخ ستصل إلى المدن الروسية في غضون 4 دقائق فقط.
أما الموقف الأوكراني، فنجده أيضاً أسيراً للضغوط التي تضيق أمامه مساحة المناورة للتنازل عن أراضيه التي خسرها، منذ عام 2014، واتسعت خلال هذه الحرب، فلو تأملنا هذه الضغوط لتوقفنا أولا أمام الحدود المعترف بها دوليا، التي تقول إن الأراضي التي سيطرت عليها روسيا، أراضٍ محتلة، ومن ثمّ فإنه لم يعد أمام الرئيس الأوكراني سوى سيناريو المقاومة، وتحرير الأرض.
ثاني هذه الضغوط، أن الموقف السياسي الأوكراني بات مرتبطا بشكل استراتيجي بمصالح حلف «الناتو»، بقيادة الولايات المتحدة، التي ترى أن التنازل في أوكرانيا لصالح روسيا، يشجع الكرملين على مزيد من التوسعات، مثل «مولدوفا»، الأمر الذي يدفع بأوكرانيا وحلفائها إلى عدم تقديم أي تنازلات.
ثالث هذه الضغوط، نقرأها في رؤية أوكرانيا التي تقوم على أن مسيرة الحرب حتى الآن في صالحها، واعتقادها أنها قادرة خلال الفترة المقبلة على استعادة، ليس فقط المناطق الأربع التي سيطرت عليها روسيا العام الماضي، بل وصلت رؤيتها إلى إمكانية استعادة شبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا عام 2014، ما يعزز هذه الحسابات الأوكرانية، أنها ترى أنه خلال العام الماضي أوقفت الزحف الروسي وتمكنت من استعادة جزء من الأراضي التي خسرتها في خيركوف، وغرب نهر دينبرو بأسلحة سوفياتية قديمة، كما ترى أوكرانيا أن الحرب في الفترة المقبلة، ستعتمد على أسلحة غربية متقدمة، مثل منظومة «الباتريوت2» ودبابات «ليوبارد2»، و«تشالنجر2».
وسط هذه الضغوط الواقعة على الطرفين، نجد حالة تمسك بكل شيء من دون التنازل عن أي شيء، وبالتالي يخلو حديث الطرفين؛ الروسي والأوكراني، من أي مبادرات أو حلول وسط، من شأنها أن تقود إلى حلول في القريب العاجل.
هنا ثمة سؤال يطرح نفسه، ما السيناريوهات المتوقعة خلال الفترة المقبلة؟
أول هذه السيناريوهات، يعتمد على نتيجة معركة الربيع التي يراهن عليها الطرفان، فلو نجح أحد الطرفين في توجيه ضربة قاضية للطرف الآخر، يمكن هنا أن يجبره على تقديم بعض التنازلات، وهذا السيناريو في ظل المعطيات الحالية يبدو بعيدا.
أما السيناريو الثاني، فيقوم على فكرة الاستنزاف الطويل وعض الأصابع، والاستمرار في الحرب حتى تحدث متغيرات داخلية لدى الطرفين تدفعهما لتقديم تنازلات إجبارية، مثل فوز الحزب الجمهوري في الانتخابات الأميركية، فهذا الحزب لديه مقاربة مختلفة لحل هذه الأزمة، بالإضافة إلى أن الأزمات الاقتصادية في أوروبا قد تدفعها إلى التوقف عن دعم أوكرانيا، وهو ما يجبر القيادة الأوكرانية على القبول بسقف أقل من المطالب الحالية.
يأتي السيناريو الثالث، متمثلا في عدم ترشيح الرئيس بوتين للانتخابات المقبلة، وهو ما يعطي القيادة وقتها فرصة لتقديم تنازلات لحل الصراع.
إذن، وسط هذه الضغوط والسيناريوهات، نجد أننا أمام مزيد من التعقيدات والتشابكات التي قد تفضي إلى حرب طويلة المدى من جانب، أو تتسع دائرة الحرب إلى دول أخرى، وربما تصل إلى صراع نووي، وهو ما تخشاه البشرية.