إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

كاتب فرنسي يواجه الغول

الكاتب هو إريك أورسينا، عضو الأكاديمية الفرنسية، والغول المفترض هو فنسان بولوري، رجل الأعمال الذي يملك 5 مليارات يورو. ويمكن لأي كان أن يكتب مقالاً يشتم فيه الرئيس ماكرون، لكن من الصعب أن تجدَ صحيفة توافق على نشر ما يمسّ بولوري في العمق. واحد من أعمدة الصناعات المتطورة التي يرتكز عليها اقتصاد البلد. تأتي قوتُه الحقيقية من شرائه عدداً من الصحف وقنوات التلفزيون ودور النشر، أو مساهمته في رأسمالها.
قبل أيام صدرت عن منشورات «غاليمار» رواية لإريك أورسينا في 176 صفحة بعنوان «حكاية غول»، تتابع سيرة رجل من مقاطعة بريتاني، غرب فرنسا، سليل عائلة برجوازية كاثوليكية متماسكة. شارك أباه في إدارة أعمال الأسرة ونجح في تحويلها من تجارة القرطاسية والبلاستيك إلى مجموعة تتاجر في كل مفاصل الصناعة والإعلام. إن اسم بولوري لا يرد في الرواية. لكن أي فرنسي يقرأها يعرف من هو المقصود. أخطبوط وفك لا يشبع من الالتهام. يقضم ويطحن ويمضغ ويسحق بالأسنان.
ليست الرواية هي موضوعنا. بل السؤال: هل هناك حدود للتعبير عن الرأي بالقول والكتابة في الجمهورية الفرنسية التي تضع الحرية في صدارة شعاراتها وقوانينها؟
في مقابلة قصيرة، ظهر أورسينا على شاشة القناة التلفزيونية العائدة للدولة ليتحدث عن روايته هذي. شكر المذيعة التي أتاحت له هذه الفرصة في حين تحرجت قنوات وإذاعات غيرها من استضافته؛ لأنها ضمن إمبراطورية بولوري. إنَّ صاحب هذا الكلام هو واحد من الوجوه الثقافية الحاضرة بقوة في المشهدين الأدبي والعلمي. له عشرات المؤلفات. كانت البرامج تتسابق على الفوز به. وبالإضافة إلى عضويته في مجمع الخالدين، فهو عضو في الأكاديمية الوطنية للصيدلة. درس العلوم السياسية ويحمل الدكتوراه في الاقتصاد. يحاضر في جامعات العالم وفي مدرسة لندن للاقتصاد. أسس عشرات الجمعيات، منها واحدة تدعم استمرار المكتبات في كل مدن البلاد وقراها.
ماذا يقول الرجل السبعيني الذي كان، في الثمانينات، مستشاراً ثقافياً للرئيس ميتران وكاتب خطاباته؟ كشف في المقابلة عن أنه استعان بـ«أشطر» محام في مجاله لكي يراجع روايته ويرشده إلى العبارات التي يمكن أن تعتبر قذفاً وتشهيراً. تخيّل أن تكتب والخبير القانوني واقف على رأسك وبيده المسطرة والقلم الأحمر.
يحكي أورسينا بمرارة عن تلقيه رسائل تمتدح شجاعته. يسأل المذيعة: «أي زمن هذا الذي صار فيه التعبير عن الرأي شجاعة؟». يتحدث عن فرنسا وكأنها غير ما نعرف. عن ضياع العدالة وعن انسحاق الطبقة المتوسطة رغم أنها القوة الفاعلة في أي مجتمع. يقول إنه ليس ضد المؤسسات ويدرك أنها عصب الاقتصاد. كان يؤمن دائماً بالشركات العائلية التي واجه معظمها صعوبات قادتها إلى التوقف أو الإفلاس. وبهذا المعنى فإنه كان معجباً بفنسان بولوري لأنه نجح في تطوير شركة العائلة. قبل أن يتحول إلى مستحوذ يشتري وسائل الإعلام. إنه الجشع إلى السلطة السياسية. يتساءل: أليس هذا ما فعله برلسكوني في إيطاليا حين أوصلته قنواته وجرائده إلى رئاسة الوزارة؟
لا تكتفي المذيعة بالسكوت والاستماع. تسأله عن دار «غاليمار» التي نشرت روايته وتلفت نظره إلى امتلاك رجل أعمال لأسهمها. يجيب بأن هذا لا يملك سوى 7 في المائة من رأس المال. أي لا يقرر سياسة النشر. يختم أورسينا المقابلة بعبارة تختصر كل شيء: «الرقابة الداخلية هي الأخطر». يعني أن يقصقص الكاتب نصّه ويشذب أفكاره لكيلا تجرح رب نعمته.