إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

برلمان سوق هرج

سوق هرج موقع في وسط بغداد يقصده الناس، يوم الجمعة، لبيع واقتناء الحاجيات القديمة والخردوات. صار اسمه مصطلحاً يُطلق على أي مكان يكثر فيه الضجيج والفوضى.
تنقلك قفزة طويلة بالزانة من العاصمة العراقية إلى العاصمة الفرنسية. مدينة جميلة تحوّل برلمانها إلى سوق هرج. أنت هنا في بلد يُضرب به المثل في التحضر. لديه برلمان عريق رأت بشائره النور أواخر القرن الثامن عشر. يستقر في قصر «بوربون» التاريخي ويجمع تحت قبته 577 نائباً. أكبرهم في الثمانين وأصغرهم في الحادية والعشرين. كيف انقلب هذا المحفل الديمقراطي النموذجي إلى حلبة للصراخ والتلويح بالقبضات وخبط الأرض بالأقدام؟
السبب هو النقاشات الحامية التي دارت حول مشروع تعديل نظام التقاعد. هناك مؤيدون ومعارضون. هل يكون الخلاف في الرأي حجة لأن يتحوّل البرلمان إلى فسحة في مدرسة المشاغبين؟ لا يشبه الجيل الحالي من النواب ما كان عليه نظراؤهم في العقود الماضية. خاض إيمانويل ماكرون الانتخابات من دون حزب يقف وراءه. جاء فوزه ضربة حظ. وكان عليه أن ينشئ حركته الخاصة. فتح الرئيس أبواب الانضمام إلى حزبه على الرحب والسعة. دعا إلى قوائمه في الانتخابات التشريعية كل من يجد في نفسه الرغبة والكفاءة. وبهذا جلس على مقاعد الجمعية الوطنية نواب من مختلف فئات المجتمع. شابات وشبان لا يمتلك أغلبهم خبرة في العمل العام.
تحاول رئيسة البرلمان الفرنسي أن تضبط الإيقاع. تضرب بالمطرقة على منصتها طالبة التزام النظام. لكن لا «حياء» لمن تنادي. وقف نائب معارض أثناء استجواب وزير العمل وصرخ فيه: «أنت نصّاب وقاتل». ساد الهرج والمرج ورُفعت الجلسة لمدة دقيقتين. ولم يأبه الوزير كثيراً لصفة نصّاب، لكنه اعترض على قاتل.
رئيسة البرلمان هي أول فرنسية تصل إلى هذا المنصب. ونائبتها من أصل عربي. ورئيسة الوزراء امرأة أيضاً. هل تجوز الشتائم في حضرة القوارير؟ غرّدت رئيسة وزراء فرنسا: «يجب أن تكون الجمعية الوطنية مكاناً للنقاش لا للسباب». وصدرت عقوبات في حق عشرة نواب. تم استبعاد نائب من اليمين المتطرف وحرمانه لأسبوعين من تخطي عتبة البرلمان، وخفض مرتبه إلى النصف لمدة شهرين. السبب أنه قاطع نائباً أسود البشرة وصاح بصوتٍ عالٍ: «عودوا إلى أفريقيا». وعوقب نائب آخر لأنه نشر تغريدة مرفقة بصورته وهو يلعب كرة القدم. الكرة تحمل صورة وزير العمل والنائب يسند قدمه عليها.
الدنيا إلى انحدار. كان التصدي للخلاف يتم على طريقة الفرسان. يلقي أحدهم بقفازه في وجه خصمه، داعياً إياه إلى المبارزة. منعت فرنسا هذا النوع من التحدي الدموي، لكنه جرى بين عمدة مرسيليا الاشتراكي غاستون دوفير وزميله النائب الديغولي رينيه ريبيير. قال الأول للثاني: «صه يا معتوه». وبعد انتهاء جلسة البرلمان ذهب المشتوم إلى الشاتم يطالبه باعتذار. ولما رفض أن يعتذر أرسل له شاهدين يدعوانه إلى المنازلة. ووافق دوفير واختار السيف سلاحاً للمبارزة.
حاول الجنرال ديغول وقف المهزلة دون أن يتراجع النائبان. وفي فجر ربيعي رائق من عام 1967 تقابل الرجلان والشهود في حديقة أحد المنازل. تبارزا لأربع دقائق لا أكثر. أصيب ريبيير بجرحين في الذراع والتقاليد تقضي بوقف المواجهة مع أول قطرة دم. وكان هناك مصور سجل الواقعة وتسربت الصور إلى الصحف. قال المنتصر إنه أراد أن يصيب خصمه في منطقة تفسد عليه ليلة عرسه. وكان المهزوم قد قرر الزواج في اليوم التالي.
سوق هرج يتابعه الفرنسيون مثل مسلسل كوميدي. ولا أتحدث عن نوابنا ونوائبنا.