عمر أنهون
TT

الزلزال والدمار والتوابع

كان أحدثُ زلزال ضرب تركيا «والجزء الشمالي من سوريا» واحداً من أشد الكوارث الطبيعية تدميراً على الإطلاق. ضرب الزلزال 10 مقاطعات في جنوب شرقي الأناضول، التي تضم ما بين 13 و14 مليون نسمة. وفي 11 فبراير (شباط)، بلغ عدد الأشخاص الذين لقوا حتفهم أكثر من 20 ألف شخص، ومما يدعو للأسف الشديد، أن العدد النهائي للخسائر سيكون أكبر، (التقارير الرسمية تقول إنَّ عدد القتلى حالياً أكثر من 28 ألف قتيل، فيما يقول كبير مسؤولي الإغاثة الإنسانية في الأمم المتحدة مارتن غريفيث إنه يتوقع أن تصل الحصيلة في كل من سوريا وتركيا إلى أكثر من 50 ألفاً - المحرر)
وقع الزلزال، الذي بلغت قوته 7.8 درجة، في الساعة 04:17 في الصباح الباكر جداً من يوم 6 فبراير، في وقت كان الجميع تقريباً يغطون في نوم عميق. وأولئك الذين تمكنوا، ركضوا إلى الشارع أو مكثوا في بيوتهم أثناء الزلزال، داعين ألّا تسقط عليهم الجدران. بعد الانتظار لساعات في البرد، عاد كثير من الناس إلى منازلهم، أو التي تبقى منها قائماً. وبعد 9 ساعات من وقوع الزلزال الأول، فيما يقول الخبراء إنه أمر نادر الحدوث للغاية، ضربت المنطقة بأكملها هزة أرضية جديدة بلغت قوتها 7.6 درجات. كان الناس قد تمكنوا من الفرار في المرة الأولى، غير أن الزلزال قد حاصرهم في المرة الثانية.
تبدو المشاهد من المدن التي تعرضت للزلزال وكأنها منطقة حرب. ويجول عشرات الآلاف من أفراد البحث والإنقاذ بيأس بين الأنقاض لإخراج الناجين. إنه سباق محموم مع الزمن وظروف الطقس القاسية للغاية، مع تساقط الثلوج، ودرجات الحرارة التي بلغت 10 إلى 15 درجة تحت الصفر. وكل يوم يمر يُقلل من فرص النجاة. وكما هو الحال في أجزاء كثيرة من العالم، حلّ الشتاء في تركيا في وقت متأخر للغاية من هذا العام. وحتى قبل أسبوعين كان الأتراك يتمنون سقوط كثير من الثلوج حتى لا يواجهوا الجفاف في وقت لاحق. والآن نصلي جميعاً من أجل توقف تساقط الثلج إنقاذاً للناجين.
احتشد الناس من جميع أنحاء تركيا لمساعدة مواطنيهم في منطقة الزلزال المدمرة. ويُشكل الأتراك من جميع الأعمار والمذاهب في أنحاء البلاد كافة سلاسلَ بشرية، ويواصلون تمرير حزم المساعدات من الأنواع كافة إلى التالي في السلسلة، ليجري تحميلها في شاحنات تُرسل إلى منطقة الكارثة. وضع المجتمع الدولي مرة أخرى خلافاته السياسية جانباً وخرج باستجابة تضامنية. وعاودت دبلوماسية الزلازل العمل مرة أخرى. على سبيل المثال، اتصل قادة دول تربطها بتركيا علاقات متوترة إلى حد ما؛ رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بالرئيس إردوغان وعرضا تقديم الدعم. ويعمل حالياً أكثر من 7500 من عمال الإنقاذ من 64 دولة جنباً إلى جنب مع فرق الإنقاذ التركية لإنقاذ الأرواح وتقديم المساعدات الإغاثية. وفي إطار الجهود المشتركة، تمكن عمال الإنقاذ من انتشال أكثر من 88 ألف شخص من تحت الأنقاض. وتتدفق المساعدات من أنحاء العالم كافة. وددنا لو أن بيئة التعاون الدولي تستمر على هذا المنوال دائماً، وليس فقط في أوقات الكوارث.
كُلف الوزراء والمسؤولون الأتراك من جميع الهيئات الحكومية بالانتقال إلى منطقة الكارثة. وقال الرئيس إردوغان إن حكومته تبذل كل ما في وسعها، لكن من المستحيل أن تكون مستعدة تماماً لمواجهة كارثة بهذا الحجم الهائل. الرئيس التركي لفت إلى أن المنطقة التي وقع فيها الزلزال ضخمة المساحة، إذ تبلغ مساحتها نحو 110 آلاف كيلومتر مربع. ومن ثم، فإن مواصلة جهود الإنقاذ ومحاولة ضمان سلامة مئات الآلاف من الناجين تُشكل تحدياً لا يُصدق. مع ذلك، فإن هذه الظروف، مهما كانت عسيرة، لا تلغي التساؤلات والانتقادات بشأن ما إذا كانت الحكومة مستعدة على نحو ملائم، لمواجهة مثل هذه الأزمة المحتملة، في بلد يقع في منطقة زلازل. وهاجم الرئيس إردوغان الذين انتقدوا تعامل الحكومة مع الأزمة، ووصف تلك المحاولات بالمحاولات الرخيصة للاستغلال السياسي. واستهدف أيضاً «الذين يحاولون إحداث الفوضى الاجتماعية». وقال إن النيابة تتعرف على الجناة الذين ينشرون الأخبار الكاذبة، وعندما يحين الوقت سوف تُفتح ملفات هؤلاء. تُدرك الأحزاب السياسية المعارضة كل تلك الصعوبات وتقدرها، لكنها تنتقد الحكومة لعدم استعدادها الجيد. ويلقون باللوم على الحكومة بسبب الإهمال وعدم التنظيم وعدم الكفاءة. كما يعتبرون إعلان حالة الطوارئ في المقاطعات العشر مؤشراً آخر على نية قمع أي انتقاد، بدلاً من استخدامه كأداة لتمكين ظروف أفضل لتيسير جهود الإغاثة.
جلب الزلزال إلى السطح عدداً من القضايا الخطيرة للغاية على مختلف الجبهات. أولاً، ما إذا كان يمكن فعل مزيد من حيث التأهب وهي مسألة قيد المناقشة بالفعل. الزلازل حقيقة واقعة في تركيا، وهذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك. حتى إن الخبراء حددوا مواقع الزلازل المحتملة، بما فيها الأماكن التي ضرب فيها الزلزال الأخير بالتحديد. وقد لا تكون هناك وسيلة لمنع الزلزال أو معرفة متى سيضرب بالضبط، لكن التأهب والتدابير اللازمة كان يمكن أن تجعل الخسائر عند أدنى حد ممكن.
ثانياً، هناك تشكيك في لوائح البناء، ولا سيما في مناطق الزلازل. وربما تكون المشكلة هي النقص في تنفيذ وإنفاذ اللوائح بصورة سليمة والتفتيش غير السليم. ويُلقى باللوم أيضاً على ما يسمى «قرارات العفو عن البناء»، وهي هبة انتخابية شعبوية، كثيراً ما تطبقها الأحزاب السياسية الحاكمة - باعتبارها جزءاً مهماً من المشكلة.
ثالثاً، سواء أكانوا مقاولين يغشون مواد البناء أم مسؤولين حكوميين لا يباشرون أعمالهم كما ينبغي، يتوقع الناس محاكمة المسؤولين. وقد أُلقي القبض على مقاول المبنى الفخم - الذي يضم 12 طابقاً، والمُشيد عام 2012 في أنطاكيا، والذي انهار وبداخله مئات الأشخاص - في مطار إسطنبول، بينما كان يستعد لاستقلال طائرة متجهة إلى جمهورية الجبل الأسود. لكنَّه رجل واحد فقط من بين كثيرين يجب تقديمهم إلى العدالة.
رابعاً، تلقَّى الوضع الاقتصادي، الذي كان المشكلة الرئيسية في تركيا خلال الآونة الأخيرة، ضربة أخرى. فمن المستحيل إجراء حساب دقيق للتكاليف الاقتصادية في هذه المرحلة، لكن تقديراً مدروساً يضع الأمر فيما لا يقل عن 30 مليار دولار.
يتعيَّن إعادة بناء المنطقة. وقد انهار عدد كبير من المباني (بلغ العدد الرسمي حتى اليوم 6444 مبنى) وتضرَّر بعضها إلى الحد الذي يستلزم معه الهدم. وقال الرئيس إردوغان إن «توكي» (إدارة تنمية الإسكان في جمهورية تركيا) سوف تحل محل المباني المنهارة خلال عام واحد.
خامساً، باتت الانتخابات البرلمانية والرئاسية قاب قوسين أو أدنى. وقد حُدد لها تاريخ 18 يونيو (حزيران) المقبل. وتحدث الرئيس إردوغان في وقت لاحق عن إجراء الانتخابات في وقت مبكر بتاريخ 14 مايو (أيار). كانت الحكومة بالفعل سوف تواجه الانتخابات الأكثر تحدياً حتى الآن، وربما جعل الزلزال الأمر أكثر صعوبة بالنسبة لإردوغان. وهناك الآن تكهنات بأن الانتخابات قد تؤجل. ولتحقيق ذلك، لا بد من تعديل الدستور من قبل البرلمان، ويحتاج الأمر إلى أكثر من 400 صوت (من أصل 600). ولا يستطيع الحزب الحاكم وشريكه تأمين هذا الرقم. فهم بحاجة إلى دعم المعارضة لإحداث التغيير اللازم في الدستور. وبصرف النظر عن النتيجة، أتوقع أن تُطرح هذه المسألة للمناقشة المفتوحة قريباً.
كما ضرب الزلزال سوريا التي مزقتها الحرب. وتسيطر المعارضة على الأجزاء الشمالية الشرقية من البلاد، ويسيطر النظام على حلب، ثاني أكبر المدن السورية، وأكثرها تضرراً.
قال النظام السوري إنه سوف يسمح بتقديم المساعدة الدولية إلى ما يسميه «المناطق التي يسيطر عليها الإرهابيون خارج سيطرة الدولة السورية».
أما الأمم المتحدة فلم يكن بوسعها تقديم مساعدات إلا بعد 3 أيام من وقوع الزلزال، لأن البوابة الحدودية الوحيدة (سيلفيغوزو) على الجانب التركي المُصرح باستخدامها لتوصيل المعونات الدولية، والطريق التي يبلغ طولها 4.5 كيلومتر بين «سيلفيغوزو» و«باب الهوى» على الجانب السوري لحقت بها الأضرار. وكان لا بد من إزالة الأنقاض من هذه المناطق لتسهيل المرور الآمن لقوافل الإغاثة. وقد عبرت أول قافلة مساعدات تابعة للأمم المتحدة مؤلفة من 6 شاحنات إلى سوريا في 9 فبراير، بينما عبرت القافلة الثانية، المكونة من 10 شاحنات في 10 من الشهر نفسه.
وصرّح وزير الخارجية التركي أن بلاده تُسهل وصول المساعدات من طرف ثالث إلى سوريا، وتُشجع على فتح معبرين حدوديين آخرين في منطقة «كيليس» المجاورة لضحايا الزلزال. كما فتحت تركيا مجالها الجوي لنفس الغرض في رحلات جوية متجهة إلى مطار حلب.
ختاماً، تتفق الأحزاب السياسية من مختلف الأطياف في تركيا على أن الوقت قد حان للوحدة الوطنية وتضميد الجراح. لكن لدى كل شخص الكثير ليقوله، وسوف يفعل ذلك بالتأكيد عندما يحين الوقت. وسوف تستمر توابع هذا الزلزال المدمر ملازمة للشعب التركي لفترة طويلة، وسوف يكون التعامل مع آثار الزلزال عسيراً للغاية.