إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

قفزة نحو الحرية

ما الذي يجعل الأوساط الفنية في العالم تحتفي براقص فارق الحياة قبل ثلاثين عاماً وتعيد إحياء تراثه على المسارح؟ إنه رودلف نورييف أهم راقص باليه في القرن العشرين. لكن البراعة في الفن لا تكفي، وحدها، لتأجيج جمرة الأسطورة عقداً بعد عقد. فلو مات الرئيس كنيدي ميتة طبيعية لما تحول اغتياله إلى سر تدور حوله التخمينات. الأمر نفسه مع مارلين مونرو، والأميرة ديانا، وإلفيس بريسلي. أسماء تهيم في فضاء الأساطير بسبب مصارعها التراجيدية.
مات الراقص على سرير المرض ولم يكن عجوزاً. لكن قفزة واحدة أبقت سيرته حيّة. إن قفزات راقصات وراقصي الباليه هي أجمل مهاراتهم. حمائم تحلّق في الفضاء. أما نورييف فلم يحلّق على مسرح الأوبرا بل في مطار «لوبورجيه»، قرب باريس. قفز الشاب من حصار مرافقيه السوفيات إلى أحضان البوليس الفرنسي.
نورييف يعني ابن النور. طفل من أصل تتاري وُلد في سيبيريا لأسرة من الفلاحين. أمه فريدة من قازان وأبوه حامد من بشكيري. روى في سيرته أن مولده كان في عربة الدرجة الثالثة من قطار المسافات الطويلة. سافرت والدته مع ثلاث طفلات للالتحاق بزوجها في فلاديفوستوك. كان قد حصل على وظيفة موجّه سياسي في الجيش الأحمر. ثم استدعي للحرب بعد هجوم هتلر على الاتحاد السوفياتي. تعود الأم بأطفالها إلى مدينة زوجها وتتقاسم كوخاً مع ثلاث عائلات. لا ماء ولا كهرباء وما من طعام سوى البطاطا المسلوقة. من يتوقع أن الولد رودلف سيصبح نجماً على مسارح العالم؟ كان يذهب حافياً إلى المدرسة. ويسخر منه رفاقه لأنه يرتدي معطف شقيقته.
الموسيقى كانت طعامه وكسوته. وفي ليلة رأس السنة من عام 1945 شاهد زيتونة ناصر الدينوفا ترقص في حفلة محلية. كانت نجمة زمانها. ولم يرفع ابن السابعة عينيه عن زيتونة. أراد أن يكون مثلها. كبر وتشبث بحلمه وحصل على أدوار ثانوية في فرقة مسرح المدينة. وحدث أن دعيت الفرقة لجولة فنية قصيرة في موسكو. كان في الخامسة عشرة وها هي فرصته. عرف الطريق إلى العاصمة ونجح في اختبار فرقة «البولشوي»، لكنه التحق بما هو أفضل. معهد الدولة للرقص في ليننغراد. قال له أحد أعضاء لجنة الاختبار: «إما أن تصبح راقصاً استثنائياً أو أن تكون نموذجاً للفاشلين».
لم يفشل. وبعد ثلاث سنوات من جهد خارق صار عضواً في «باليه كيروف». ثم الراقص الأول فيها. كان في العشرين وجاءته فرصة أكبر حين دعيت فرقته لتقديم عروض في باريس. تردد المشرفون في اصطحابه بسبب روحه المتمردة. ما قيمة الآخرين من دونه؟ وفي باريس لم يخيّب نورييف الشكوك. وبدل أن يعود لينام في الفندق راح يستكشف المتاحف والنوادي المتصالحة مع الموهوبين والمثليين.
المحطة التالية للفرقة كانت لندن. لكن رجال المخابرات المرافقين لها قرروا إعادته إلى موسكو. اختفى نورييف من مقهى المطار وظهر عند مكتب شرطة الحدود. قال بإنجليزية متلعثمة إنه يطلب الحرية. حققت له باريس طلبه واحتضنته. وردّت موسكو بسجنه غيابياً. وكشفت الوثائق فيما بعد أنهم سعوا لملاحقته وكسر ساقيه ليكون عبرة لغيره.
عاش نورييف عشرين عاماً منزوع الجنسية. أصبح مديراً لباليه باريس ثم منحته النمسا جنسيتها. واصل تحليقه على أشهر مسارح العالم وتحوّل إلى أسطورة. لم يغلبه سوى «الإيدز».
تصارع مع المرض لسنوات طوال وواصل الرقص. ولما مات في باريس أوصى بدفنه في مقبرة روسية، وتغطية ضريحه بسجادة شرقية من الموزاييك. القبر الوحيد لنزيل مسلم.