سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

على وسادة رامبو

مساكين أدباؤنا، الأموات منهم، وغاب ذكرهم، قبل الأحياء، الذين لا يزالون يستمتعون ببعض الاعتراف، ويأملون بشيء من المجد.
فلا مجال لأي مقارنة بين ما يحظى به مارسيل بروست وموليير وألبير كامو في احتفالياتهم الوطنية الكبرى، التي تعمّ البلاد وتغزو المدارس والمؤسسات، لإحياء آثارهم، واللقاءات المتواضعة السريعة التي تخصص لمحمود درويش وطه حسين وغسان كنفاني وحتى نجيب محفوظ.
هل يحلم راحلونا من المبدعين بمثل ما يخصص لستاندال في مدينة نانسي الفرنسية، حيث سيصبح له فندق بالقرب من كاتدرائيتها، يسبح بأجواء نصوصه وأخيلته وشخصياته. هي فكرة مجنونة لرجل أعمال مهووس بالأدب والكتب، كرّس جزءاً من أمواله، لإثارة فضول القراء، وحثّ المتقاعسين منهم على معرفة أكبر بكبار كتّاب بلاده، والبحث عن أسرارهم وأخبارهم والاستمتاع بمؤلفاتهم.
إنه الفندق السابع، ضمن سلسلة «الفنادق الأدبية» التي يفتتحها جاك ليترتر صاحب الوجه الطفولي، وعيني زرقاء اليمامة بقوة بصره، وهو يقود مغامرة وصلت إلى عامها العاشر، خلالها افتتح أوتيلات، دشنها مع كاتبه المفضل مارسيل بروست في الدائرة الثامنة من باريس، وأتبعها بفنادق لأرتور رامبو، غوستاف فلوبير، ألكسندر فيالات، مارسيل أيمي، جول فيرن. ويبدو أن الأرباح لرجل الأعمال مجدية؛ مما شجعه على المضي في مشروعه، وهو يخطط في المستقبل القريب لفندقين لامرأتين كاتبتين، هما: كوليت وجورج ساند.
محكّ النجاح في هذه السلسلة الفندقية، هو امتلاك مهارة تنفيذ الفكرة بالعمق والأناقة الكافيين، لجذب النخبة، كما عشاق الأدب متوسطي الدخل، المستعدين للتضحية. فأي تبسيط أو تسخيف في التنفيذ، يحول الفندق مكاناً لدعايات سطحية ساذجة، لا تليق بمقام كاتب كبير. لهذا أُبقيت الفنادق رغم جماليتها ضمن فئة الأربعة نجوم لإتاحة الفرصة للجميع، مع أن كل غرفة هي عالم فريد بحيث لا تشبه أي غرفة أخرى في الفندق نفسه. وبمقدورك أن تحجز واحدة، وتتمتع بزيارة ما تبقى بالمجان.
قياساً على التجارب السابقة ليترتر، قد تتصور بأن فندق ستاندال بدءاً من اسمه، مروراً بكل تفاصيل بهوه وغرفه، ومطاعمه، سيكون من وحي كتاباته، حيث يستفاد من علاقة الأديب الوثيقة بإيطاليا وبموسيقي عصره من سيماروزا، إلى موزار، وروسيني، ليضج المكان بالموسيقى والفن التشكيلي. لكن المستثمر الذي يعرف عنه، أنه أحد هواة التجميع والاقتناء الكبار، صعّب على نفسه المهمة، واختار للفندق شعاراً معبراً، انتقاه صاحب «الأحمر والأسود» بنفسه ليزين شاهد قبره، هو «كَتب، أحب، عاش». وسيستلهم الفندق بشكل خاص الجزء الأول من رواية ستاندال «لوسيان لوين» فقط التي مات ولم يتمكن من إكمالها، وتدور أحداثه في مدينة نانسي، وفي مكان الفندق الجغرافي بالذات.
هذه الفنادق تقام بشكل رئيسي معتمدة على أبحاث معمّقة حول الكاتب، وأهمية المكان. في فندق بروست الباريسي الذي يحمل اسم «سوان» الجزء الأول من رائعته «البحث عن الزمن الضائع»، وافتتح في المنطقة التي عاش فيها، مكتبة في المدخل تحوي 500 كتاب لبروست وعنه، بمختلف لغات الدنيا، بمقدور المقيم أن يستعيرها في غرفته. كل غرفة من غرفه الثمانين، لها موضوع، وشيدت مناخاتها من وحي إحدى شخصيات الرواية. فندق يستعيد الأجواء المخملية التي عاشها الكاتب في باريس والبندقة، وأماكن أخرى. بالرسوم المتحركة، واللوحات التجريدية، والكتابات الكاليغرافية على الحيطان، وبعرض مقتنيات الكاتب التي جمعها المستثمر، من أقلام ومخطوطات ونسخ لكتب قديمة، وحاجيات شخصية، يحول الرجل فنادقه متاحف. ومن الصالات الفارهة التي تستقبل الندوات والنقاشات والقراءات، استطاع أن يجعلها نوادي فكرية.
من هم النزلاء؟ يستغرب ليترتر نفسه، أن فندق بروست في صيغته القديمة اللاأدبية كان غالبية رواده من الفرنسيين، اليوم انقلب المشهد، وأصبح الإقبال من السياح، الراغبين في التعرف أكثر إلى التجربة الفريدة ومعايشتها.
يصرّ المستثمر- الأديب على فكرة واحدة يكررها «ليس عليك أن تبحث أو تقرأ قبل أن تأتي إلينا. أنت هنا لتعرف أكثر ولترغب في معرفة أوسع».
لفتني أن مصر افتتحت قبل أيام داخل المركز القومي للمسرح متحفاً يضم مقتنيات لـ79 شخصية ثقافية وفنية من ألمع نجومها. مقتنيات قليلة لكل منهم، لكن يمكن البناء عليها، وتطوير العمل بسرعة. هذا صنف من المشاريع الوطنية يحتاج إلى أمرين: ثقة عائلات الراحلين الكبار، بأن تراث فقيدهم سيُحفظ بأحسن مما هو عليه في بيوتهم، والأمر الآخر هو إيجاد الفكرة الألمعية التي تمكّن الجهة الراعية من استثمار المقتنيات، والبناء عليها لإنعاش حضور الأديب أو الفنان في ضمير الناس ووجدانهم، بالتشويق لمعرفته والعودة إلى تراثه.
كم يمكن أن يجلب بيت فيروز في طفولتها ومطلع شبابها، في زقاق البلاط، الذي أثير الكلام حول إعادة تأهيله عشرات المرات، من مداخيل ونشوة للزوار، ولم يُنفذ منه شيء؟ ما هو مصير مقتنيات ميخائيل نعيمة، من بعد أولاد إخوته - أطال الله بأعمارهم، ومن سيرعى إرثه؟ ومثله يمكن الحديث عن مارون عبود، وإميلي نصر الله، وأمين نخلة، والأسماء كثيرة. والحق يقال، أن أحذقهم كان جبران خليل جبران الذي أدرك سلفاً عمق العلّة، فاشترى مدفنه ومتحفه، وأقام مؤسسته بأمواله الخاصة، وبات يصرف على نفسه، ويستطيع أن ينفق على بشري، لو روجت الدولة لمتحفه أكثر.
لسوء الحظ أن على أدبائنا أن يرعوا أحوالهم أحياءَ وأمواتاً أيضاً. وهذا لعمري من مهازل الدهر.