د. محمد علي السقاف
كاتب يمنى خريج جامعتَي «إكس إن بروفانس» و«باريس» في القانون والعلوم السياسية والعلاقات الدولية حاصل على دكتوراه الدولة في القانون عن منظمة «الأوابك» العربية من السوربون ماجستير في القانون العام ماجستير في العلوم السياسية من جامعتي باريس 1-2. له دراسات عدة في الدوريات الأجنبية والعربية والعلاقات العربية - الأوروبية، ومقالات نشرت في صحف عربية وأجنبية مثل «اللوموند» الفرنسية. شارك بأوراق عمل في مراكز أبحاث أميركية وأوروبية عدة حول اليمن والقضايا العربية. كاتب مقال في صحيفة «الشرق الأوسط».
TT

المفاضلة بين أوكرانيا وإسرائيل... المصالح قبل المبادئ!

في مقالنا الأخير المعنون «هل هناك مفاضلة للغرب بين أوكرانيا وإسرائيل»، تناولنا حجم المساعدات العسكرية والمالية الضخمة التي قدمتها الولايات المتحدة لدعم أوكرانيا، مقارنة بالدعم الأوروبي الذي لا يمكن مقارنته بالولايات المتحدة.
اقتحام جنين من قبل القوات الإسرائيلية، وهجوم القدس الذي قام به أحد الفلسطينيين، يجسدان نموذجاً لاختلاف ردود الفعل إزاءهما بين موقف الإدارة الأميركية وموقف فرنسا، إحدى دول الاتحاد الأوروبي. وتداعيات الحدثين على مستوى مجلس الأمن الدولي.
فقد قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي للصحافيين: «إن الولايات المتحدة على علم بالتقارير التي تفيد بمقتل ما لا يقل عن عشرة أشخاص في عملية (مكافحة إرهاب لقوات الدفاع الإسرائيلية)، وتأسف بشدة للخسائر في أرواح المدنيين». وفي عملية القدس، بينما انعقد مجلس الأمن الدولي لبحث اقتحام القوات الإسرائيلية لمخيم جنين، سارعت الولايات المتحدة بالتنديد بما سمته «هجوماً إرهابياً واضحاً ضد كنيس في القدس». بالمقارنة، دعت فرنسا يوم الجمعة الماضي كلاً من إسرائيل والفلسطينيين إلى الامتناع عن تأجيج التصعيد، إثر غارات جوية شنتها الدولة العبرية على غزة؛ رداً على صواريخ أطلقت من القطاع انتقاماً لمقتل عشرة فلسطينيين خلال عملية إسرائيلية بالضفة الغربية. وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الفرنسية آن - كلير لوجاندر إن «فرنسا تعبر عن أسفها كون أعمال العنف في الضفة الغربية أسفرت في شهر يناير (كانون الثاني) وحده عن مقتل 30 فلسطينياً». وشددت المتحدثة على أن فرنسا تؤكد تمسكها «باحترام القانون الإنساني الدولي»، و«بواجب حماية المدنيين في الأراضي المحتلة، الذي يقع على عاتق إسرائيل».
والجدير بالذكر أن فرنسا والصين والإمارات العربية المتحدة هم من دعوا إلى عقد الجلسة الطارئة لمجلس الأمن الدولي.
وبعد الهجوم على كنيس بالقدس ومقتل 7 إسرائيليين، الذي تزامن مع ذكرى الهولوكوست، أجمعت الأوساط الغربية على الإدانة، مع اختلاف استخدامها للمفردات التي تفاوتت حدتها لدى الجانب الأميركي والبريطاني، في حين طالب مسؤول العلاقات الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل إسرائيل بعدم استخدام «القوة المميتة» ضد الفلسطينيين. وأشارت الخارجية الروسية إلى أن الهجوم في حي النبي يعقوب جاء نتيجة الحملات العسكرية الإسرائيلية في مدينة جنين... داعية لاستئناف الحوار الفلسطيني الإسرائيلي. وأدانت الدول العربية من جانبها ذلك الهجوم؛ حيث أدان بيان الخارجية السعودية «كل استهداف للمدنيين»، مطالباً بإحياء عملية السلام وإنهاء الاحتلال. وأدانت وزارة الخارجية الإماراتية ما سمَّته «الهجوم الإرهابي»، وأعربت الوزارة عن خالص تعازيها للحكومة الإسرائيلية وشعبها الصديق، ومواساتها لأهالي وذوي الضحايا، جراء هذه الجريمة النكراء.
وكان تعليق أحد قراء المحطات الفرنسية «فرانس إنفو» حول الحدث: لماذا الغرب الآن في حملته على روسيا يبررها باحتلالها أراضي أوكرانية، ويلتزم الصمت منذ عقود على احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية؟
أحداث الضفة الغربية تصدرت الأخبار العربية، بعكس وسائل الإعلام الأميركية والغربية التي همشت تلك الأحداث، واستمرت في التركيز على الأزمة الأوكرانية الروسية، حول أسباب رفض ألمانيا طلب أوكرانيا تزويدها بالدبابات الثقيلة من نوع «ليوبارد»، وكذلك «إبرامز» الأميركية، ولماذا تراجعت كلتاهما عن موقفهما الأول؟
أشارت إلى ذلك أغلب الصحف الأجنبية والعربية، مثل صحيفة «الشرق الأوسط»، التي جاء خبرها في 21 يناير 2023 بعنوان: «(ليوبارد) ليست على قائمة الدعم العسكري لكييف حالياً... و(إبرامز) الأميركية مستبعدة كلياً»، وذلك استناداً إلى فشل الضغوط الدولية والداخلية في إقناع ألمانيا باتخاذ قرار سريع في إرسال دبابات «ليوبارد» ألمانية الصنع إلى أوكرانيا، التي تطالب بها كييف منذ مارس (آذار) الماضي. حدث ذلك عند اجتماع لمجموعة دعم أوكرانيا المنعقد في قاعدة رامشتاين بغرب ألمانيا.
بيد أنه في فترة قصيرة، بعد الجدل والتردد، أعلنت ألمانيا أخيراً موافقتها على إرسال دبابات «ليوبارد» إلى أوكرانيا، وفق ما أعلنه المستشار الألماني أولاف شولتس في «البوندستاغ» (البرلمان)، بقوله إنه كان من المهم «انتظار الحلفاء واتخاذ القرار بالتنسيق معهم»، مشيراً إلى أن أي خطوة منفردة كانت «لتعرض أمن ألمانيا للخطر»، وفهم الجميع أن ما كان يقصده بـ«الحلفاء»، هي الولايات المتحدة التي كان ينتظر موافقتها هي أيضاً على قرار الرئيس بايدن بتزويد كييف بعدد 31 دبابة «إبرامز»، فيما وافقت المملكة المتحدة على إرسال فوج كامل يضم 14 دبابة «تشالنجر». يضاف إلى ذلك إعطاء ألمانيا الضوء الأخضر لعدد من الدول الأوروبية الأخرى التي ترغب في إرسال دبابات «ليوبارد 2» إلى أوكرانيا. وموافقة الجهة المصنعة شرط أساسي في العقود بينها وبين المشتري، وإن ادعت بولندا قبل موافقة ألمانيا أنها كانت مستعدة لتجاوز ذلك الشرط القانوني، وتزويد أوكرانيا بالدبابات الألمانية المشتراة منها. ويلاحظ هنا أن الجانب الفرنسي لم يعطِ موافقته بعد على تزويد كييف بدباباتها المتقدمة «لوكليرك». وصرح سفير كييف لدى فرنسا بأن الدول الغربية ستسلم بلاده 321 دبابة ثقيلة. وتطمح كييف في المرحلة المقبلة إلى أن يتم تزويدها بطائرات حربية من طراز «F-16»، وصواريخ بعيدة المدى يمكنها الوصول إلى العمق الروسي، مؤملة بذلك أن الغرب قد يتردد في بادئ الأمر، مثل موقفه من عدم تزويدها بالدبابات الثقيلة، التي وافق عليها في نهاية الأمر، وأن يتجدد الشيء نفسه بخصوص حصولها على طائرات «F-16»، والصواريخ بعيدة المدى، لأن كييف تعلم أن الولايات المتحدة -والغرب عموماً- لا تساعدها وتدعمها على أساس اعتبارات مبدئية، ودفاعاً عن حرب كييف العادلة، وإنما تقوم بذلك لأنها تتفق ومصالحها الجيوستراتيجية. ففي حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 لم تتردد الولايات المتحدة في ترتيب جسر جوي مباشر مع إسرائيل لتزويدها بالأسلحة التي فقدتها في الأيام الأولى من الحرب، ولم تكتفِ بذلك، بل أنشأت مستودعات ضخمة لتخزين الأسلحة الأميركية التي سمحت أميركا الآن -وفق صحيفة «نيويورك تايمز»- بفتح مستودعاتها في إسرائيل لنقل الذخائر إلى الجيش الأوكراني، الأمر الذي عدّه كثير من المراقبين إشارة إلى أولوية السياسة الأميركية بتأمين مستلزمات المعركة ضد روسيا في أوكرانيا.
يخشى الغرب، رغم تدفق الأموال والأسلحة إلى أوكرانيا، من قيام روسيا بهجوم واسع على أوكرانيا قبل حلول الذكرى الأولى للحرب، لتحقيق نجاحات عسكرية، مما يؤشر إلى أن نهاية الحرب ليست قريبة، وهو ما دعا إلى قرار ماكرون تقديم مشروع قانون للقوات الفرنسية للفترة المقبلة 2024 - 2030 بتخصيص ميزانية قدرها 400 مليار يورو، ومطالبات ألمانية بزيادة تجهيز قواتها المسلحة بأكثر من مليار يورو، التي كانت مقررة سابقاً في بداية الأزمة، وتوجه اليابان إلى تغييرات جذرية في استراتيجيتها الدفاعية لمواجهة المخاطر الجديدة من أوكرانيا إلى تايوان، بإعلانها خطة بقيمة 320 مليار دولار لبناء الجيش بحلول عام 2027.
والسؤال المطروح هنا: وماذا عن الدول العربية؟ هل ستعامل الولايات المتحدة شركاءها العرب، في الخليج خاصة، معاملتها نفسها لأوكرانيا، وتزودهم باحتياجاتهم من الأسلحة المتطورة؟ وهل ستقوم تلك الدول أيضاً بتنويع مصادر تسليحها التي تحصل عليها من روسيا والصين؟ وهل ستكتفي بالتزود بالأسلحة؟ أم ستأخذ بخلاصة ما ذكره الدكتور أحمد أبو الغيط في كتابه «شاهد على الحرب والسلام» من أن معركة 73 وكذلك مأساة 67 كشفت أن من لا يصنع سلاحه أو يوفر مصادر أجنبية متواصلة وسريعة له، يبقى دائماً رهناً للضغوط؟