سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

خطر انقطاع النسل

الشامتون بانخفاض عدد سكان الصين كثر، وهم في الغالب، أسوأ حالاً، وأصعب مآلاً. أوروبا تناقش بفرح فضائل أن ينقص عدد الصينيين 850 ألف شخص في سنة واحدة، للمرة الأولى منذ ستة عقود. وأميركا تعدّ وتحلل مزايا الظاهرة، وانعكاساتها السلبية على عدوها الأول، ومنافسها الأشرس، على قيادة العالم واقتصاده. لكن دراسة حديثة تظهر أن أوروبا بشكل عام، وضمنها بريطانيا، انخفض الإنجاب فيها العام الماضي بما نسبته 14 في المائة. وهي في الأصل قارة تشيخ ولا تتجدد.
لم تعد المرأة الصينية تنجب أكثر من 1.15 طفل. أي أن الموتى لا يعوضون، بل تتقلص الكتلة السكانية. لكن النسبة تكاد تكون مشابهة في اليابان التي تعاني من نقص في الشباب ووفرة في عدد العجائز. وثمة ما هو مشابه كذلك في كوريا الجنوبية. بعض المهللين لتناقص عدد الصينيين، يريدون إلقاء اللوم على سياسة الطفل الواحد، والقول إنه بلد فاشل، يعتمد قرارات قمعية، تنتهي بتصدع وانهيار.
والصين بدأ عدد سكانها يراوح مكانه منذ تسعينات القرن الماضي، والتدهور الديمغرافي كان متوقعاً لكن بعد خمس عشرة سنة على الأقل.
الوباء وموت آلاف البشر بسبب استشراء المرض لم يكونا من ضمن المتوقع في الصين ولا أميركا.
أوروبا كلها، تعيش المأزق نفسه، مع فارق جوهري هو أنها مستعدة لاستيراد البشر وتجنيسهم. فقد تمكنت ألمانيا بعد قبولها مليون لاجئ خلال فترة قياسية، من رفع مستوى الإنجاب بشكل غير مسبوق، ومع ذلك لم يصل بعد إلى 2 في المائة المأمولة لكل امرأة، للحفاظ على عدد السكان. وكانت ألمانيا قبل سنوات قليلة، في وضع مشابه للصين اليوم، بحيث لا تكفي الولادات لتعوض الوفيات.
لكن التجنيس وقبول طلبات اللجوء، ولو بشكل مدروس كما اتبعته أوروبا، منذ القرن الماضي، خوفاً من شيخوخة، فعجز، فإفلاس، سياسة عواقبها ليست بالسهلة أيضاً. فنمو اليمين المتطرف الكاره لهذا التنوع الهجين ورفض الآخر أشبه ببدء تمزق النسيج الاجتماعي، وصعود نحو خلافات أهلية تحتاج إلى حنكة وحكمة لترويضها. أما وأن الوضع شائك هكذا فليست الحروب والأزمات الاقتصادية، وانخفاض مستوى المعيشة، وتقهقر الخدمات الصحية، هي المناخات المناسبة لتذليل هذا النوع من العقبات.
قبل يومين تصدّر الصفحة الأولى لصحيفة «اللوموند» الفرنسية الرصينة، عنوان مزلزل: «أوروبا: شح كبير في الأدوية». نحن لسنا في زمن الوباء وإغلاق المطارات ووقف الملاحة. ومع ذلك كتبت الصحيفة عن فقدان الكثير من الأنواع من بينها منتجات الباراسيتامول. نحو 3 آلاف صنف بات يصعب تأمينها للمرضى بشكل سلس، بسبب الحرب، وبعد مصادر الإنتاج وضعف سلاسل التوريد، وكل المعوقات التي نسمعها باستمرار.
وبحسب الدراسات، فإن الوباء والحجر وما تبعهما من كوارث اقتصادية وحربية، أدت فعلاً إلى كآبة عالمية، ورؤية سوداوية للعالم، مع ضعف قياسي في مستوى الإنجاب ليس في بلدان أوروبية فقط، بل في بلد مثل الهند تعد الكثافة السكانية فيه كارثة محققة، لكن الارتفاع لم يعد على الوتيرة السابقة. ولبنان الذي يعاني مشكلاته الخاصة، ويحتمل ما يصيب العالم، أصبح أقل خصوبة من بعض الدول الأوروبية، والأقل إنجاباً على الإطلاق بين كل الدول العربية، إذ انخفضت نسبة الولادات إلى 1.2 لكل امرأة. وإذا ما أضيف إلى صعوبة العثور على حليب الأطفال ومن ثم إلحاق الأطفال بالمدارس، وهجرة الشباب الكثيفة، مع ضعف العناية الصحية، تدرك أن لبنان يتحول تدريجياً، لولا وجود اللاجئين السوريين الذين احتفظوا بنسب ولادات مرتفعة، إلى مأوى حقيقي للمسنين الذين لا يجدون من يعنى بهم.
سكان الأرض ازداد عددهم بشكل هائل في السنوات السابقة، حتى لتشعر بأن الأرض تغصّ بسكانها، وتعجز عن إطعامهم ومدّهم بالأوكسجين الكافي. لكن الوتيرة الإنجابية لن تحتفظ بخطها التصاعدي، إذا ما استمر الأرق البشري على ما هو عليه. ثمة تقاعس عالمي عن الزواج، وهناك تأخر وفي أحيان صدود كبير عن الإنجاب.
هذا لا يعني أننا سنندثر كجنس. ثمة شعوب تأخذ على عاتقها تجديد الكوكب، لكنها غير تلك التي أفنت جهود أبنائها في العمل والكد، وألهتهم عن أدوارهم الطبيعية، ببناء الاقتصادات، ووترت أعصابهم بسؤال التفوق، وأدخلت نفسها بقوة في سباقات الرخاء الليبرالي المكلف.
الديموغرافيا ستكون عنصراً حاسماً في تغيير شكل العالم في المستقبل القريب. الصين قد تتغلب على مشكلتها بتشجيع أكبر للإنجاب وقد لا تستطيع. لكن المشكلة تتجاوزها، لتعم أوروبا وتزحف إلى أميركا وكندا وأستراليا. هل الجنس الأبيض مهدد؟ والأصفر أيضاً؟ ولأي لون وجنس ستكون الغلبة؟ وكيف؟ ثمة بعض الإجابات تطل برأسها من ألمانيا وفرنسا، لكن الأجوبة النهائية قد تحتاج إلى عقد أو أقل.