د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

عودة أجواء «المرأة الحديدية»

تخيم على بريطانيا أجواء ساخنة شبيهة بما واجهته رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر في مطلع الثمانينات عندما ألقت «المرأة الحديدية» خطبة عصماء في البرلمان، قالت فيها لممثلي الشعب بعد أن حدث ما حدث (من تمرد عمال المناجم ضد سياساتها الإصلاحية): «سوف ترون قيادة جديدة» في هذه البلاد، وكررتها مرتين بنبرة حادة.
رئيس الوزراء البريطاني الحالي ريشي سوناك اضطر، قبل أيام، إلى إنزال 1200 عنصر من الجيش هنا في بريطانيا للقيام بمهمة حرس الحدود (مطار هيثرو وغيره)، فضلاً عن خدمات الإسعاف وغيرها بعد أن قرر آلاف من موظف من سائقي «سيارات الإسعاف، تنظيم أكبر إضراب من نوعه في تاريخ الخدمات الصحية في البلاد، بسبب خلافات حادة حول حجم زيادة الأجور»، وانضمت إليهم قطاعات أخرى حساسة، وذلك في ذروة موسم الاحتفال بأعياد الميلاد. وتأتي خطورة هذه الأجواء في أن معدل التضخم (الزيادة السنوية في الأسعار) قد بلغ نحو 11 في المائة، وهو الأعلى منذ 41 عاماً، ولم تنفع معه زيادات الحكومة في الرواتب (5 في المائة) حيث تطالب النقابات بنحو 15 في المائة لتأمين دفع الفواتير المتصاعدة في مواجهة تداعيات «كورونا»، والحرب الأوكرانية، والخروج من الاتحاد الأوروبي.
وقد اضطرت خطوط الطيران إلى تأخير مكوث المسافرين في طائراتهم قرب مدرج المطار لتخفيف الازدحام في مطارات البلاد، التي تولى مهمتها الجيش البريطاني لسد النقص في مشهد غير مألوف. شخصياً أتابع الصحافة البريطانية بشكل يومي ولا أذكر أن عاماً مرَّ من دون إضرابات. حتى إن بريطانيا قد بلغ مجموع أيام إضراباتها نحو 417 ألف يوم طوال ما يقارب العقد الماضي، وهو رقم يبدو أن البلاد صارت تنافس به فرنسا والدنمارك (نحو 117 يومياً) وبكل تأكيد هو أكثر بكثير من إضرابات الأميركيين (5 أيام) والسويسريين (يوم واحد)، بحسب إحصائية منظمة OECD في الفترة من 2008 حتى 2017!
هذا كله دفع رئيس الوزراء إلى «التكشير عن أنيابه» بالتسريع في سن تشريعات جديدة «تحمي حياة الناس ومعيشتهم من الإضرابات».
صحيح أن الإضرابات حق كفلته «بعض» الدساتير لكنها ينبغي أن تكون مسؤولة. وكذلك مطالباتها لا بد أن تكون عقلانية حتى لا تفقد جديتها، وكذلك تعاطف الشارع والمسؤولين معها. أذكر حينما كنت أحد قياديي قائمة الوسط الديمقراطي ذائعة الصيت في الجامعة، اقترح أحد كبار النقابيين مقترحاً «صادماً»، وهو إغلاق بوابة الجامعة بالسلاسل الحديدية بعد تجاهل الإدارة لمطالب النقابة! كنت من أشد المعارضين لهذه الفكرة التي اعتبرناها تصرفاً غير حكيم، وتصعيداً غير مبرر، لأنه يصادر حق الطلبة الآخرين بالانتظام بيومهم الدراسي. وهناك ألف طريقة لإيصال المطالب من دون تعطيل مصالح الناس.
أقول هذا للتأكيد على قناعتي الراسخة بحق الناس في التعبير عن نفسها ومطالبها، لكن الحرية يجب أن تكون مسؤولة وعقلانية، لكي لا يخسر الجميع ما تبقى من تعاطف، فضلاً عن المكتسبات المشروعة.