ممدوح المهيني
إعلامي وكاتب سعودي. مدير قناتي «العربية» و«الحدث» كتب في العديد من الصحف السعودية المحلية منها جريدة الرياض، ومجلة «المجلة» الصادرة في لندن. كما عمل مراسلاً لـ«الشرق الأوسط» في واشنطن. وهو خريج جامعة جورج ميسون بالولايات المتحدة.
TT

هل خانت إدارة بايدن الأفغانيات؟

في عام 2010 حينما كان بايدن نائباً للرئيس ذهب في مهمة لأفغانستان. ويروي المبعوث الأميركي لأفغانستان ريتشارد هولبروك المشاحنة الكلامية بينهما، عندما اعترض المبعوث على طلب بايدن الانسحاب بشكل سريع، مبرراً موقفه بأن لدى الولايات المتحدة الأميركية مسؤولية في حماية الشعب الأفغاني من نظام طالبان. رد بايدن: «اللعنة على ذلك. ليس علينا أن نقلق من ذلك. فعلها نيكسون وكيسنجر في فيتنام ولم يحدث لهما شيء». وفي مذكرات هولبروك يذكر أن بايدن استشاط غصباً عندما ذكّره بحقوق المرأة الأفغانية التي ستتلاشى تحت حكم طالبان، حيث قال له نائب الرئيس: «لن أرسل ابني هنا لأحمي حقوق هذه النسوة الأفغانيات. لم نأتِ هنا لهذا السبب!».
القصة بعد ذلك معروفة، فعندما أصبح بايدن رئيساً قرر أن ينسحب من أفغانستان، ولم يستمع إلى الطلقات التحذيرية التي أطلقها القادة العسكريون عن مخاوف انزلاق البلاد إلى الفوضى.
لقد بدا واقعياً بارداً عنيداً عديم الرحمة، ولكنه كان يفكر أن يخرج بلاده من الحرب التي امتدت لعقدين، وخسرت التأييد الشعبي الذي تراجع بسبب التكلفة المادية العالية. لقد قال بايدن في أول خطاب بعد الانسحاب إن عصر التدخلات العسكرية انتهى وحان وقت الدبلوماسية، ولكن سبب خروجه الأساسي كان داخلياً؛ لأن الرئيس يطمح إلى حشد حزمة الإنجازات التي تعينه على الفوز بفترة أخرى، ولكن هذه المهمة الجريئة تلطخت بالصور الصادمة عن فوضى الخروج من كابل، وسقوط الشبان الأفغان اليائسون من الطائرات العسكرية المغادرة.
ورغم التطمينات الأميركية بأنها لن تبتعد وستلاحق القيادات الإرهابية السيئة، وستمنعها من ترتيب نفسها والقيام بهجمات جديدة، وقامت بقتل زعيم القاعدة الظواهري، فإن الجميع يدرك أن المجتمع الأفغاني، والنساء الأفغانيات تحديداً، أصبح الضحية الأكبر لهذا الخروج. ستفتك المسيّرات بالشخصيات المتطرفة، ولكن ستكون عاجزة عن القضاء على القوانين والتشريعات التي تفرضها على المجتمع.
وهذا ما حدث بالضبط، حيث تعود من جديد الحقبة المظلمة لمرحلة طالبان الأولى الملطخة بالدم ومشاهد الرجم والإعدامات وبتر الأعضاء التي توقع الجميع أن العالم تخلص منها للأبد.
ما يحدث للنساء الأفغانيات ردة محزنة ومأساة حقيقية تتكشف فصولها على مرأى العالم الصامت، والأكثر سوءاً أن التحذيرات من داخل الإدارة نفسها بأن الانسحاب السريع سيهدد كل المكاسب التي حققتها المرأة الأفغانية بفضل المساعدة الأميركية وستكون عرضة للتهديد، قوبلت بتجاهل بغية تحقيق الخروج في الموعد المحدد.
ورغم كل هذا فإن هناك من راهن بطريقة ساذجة على الوجه الجديد الناعم لطالبان الذي حاولت ترويجه لكسب الاعتراف الدولي قبل أن تكشف عن حقيقتها. هذه هي طبيعة الأنظمة المتطرفة؛ لأنها غير قادرة على تغيير عقيدتها الفكرية وتطوير نفسها وتبديل جلدها؛ لأن ذلك سيؤدي لفقدان شرعيتها أمام مناصريها. طالبان لم تعين في أعضاء حكومتها أي أعضاء خارج الجماعة، حيث تجمعهم عقيدة فكرية واحدة، ويصعب عليها أن تقبل آخرين لا يؤمنون بأفكارها؛ لأن ذلك سيؤدي إلى ضعف وتراخي قبضتها على السلطة التي هي هدفها الأخير.
كتب بعض المعلقين أن الإدارة الأميركية الحالية خانت النساء الأفغانيات؛ لمعرفتها أن الانسحاب وعودة طالبان يعنيان التخلي عنهن وتحطيم أحلامهن بشكل نهائي. لكن إدارة بايدن في الحالة الأفغانية تفكر بطريقة باردة عملية، ولا تمزج بين المبادئ الأخلاقية والمصالح الواقعية على الأرض. ورغم حديثها عن أن سياستها الخارجية تركز على حقوق الإنسان فإن ذلك في الخطابات والبيانات وعبر الدبلوماسية وليس الأفعال.
بايدن قضى وقتاً طويلاً في الكونغرس، ويدرك كيف يلقي الخطابات المصممة لإلهاب العواطف، ويقيس جيداً مزاج الشارع الأميركي الذي سئم من الحروب، وقد قام بالانسحاب الذي عجز عنه الرؤساء قبله لتحقيق مكاسبه السياسية الشخصية. لهذا لا يمكن أن تقوم الإدارة بأي خطوات غير تلك التصريحات المتوقعة الغاضبة التي أدلى بها المتحدث باسم الخارجية الأميركية بعد قرار طالبان منع النساء من التعليم الجامعي.
التراجيديا الأفغانية تكشف بعض الحقائق، وهو أن القادة السياسيين الأقوياء وأصحاب الأفكار المنيرة المستقبلية هم الضمانة الوحيدة التي تمنع الجماعات المتطرفة والمتعاطفين معها سراً وعلانية من العودة من جديد. رغم كل الحديث عن التغيير والتطوير فإن ذلك مجرد أكاذيب للوصول إلى السلطة وفرض أجندتها. بعد أن توقع الجميع أن طالبان أصبحت من الماضي فإنها عادت بعد أن انهار النظام السياسي الذي بنته الولايات المتحدة ومنحت الأمل بحياة طبيعية لملايين الناس، قبل أن يقرر بايدن أن يغادر. وهذا الدرس الثاني وهو أن الدول الكبرى لها مصالحها وصراعاتها الداخلية وظروفها الاقتصادية، ومن الصعب أن توقفها المواعظ الأخلاقية وإلقاء اللوم عن وقف خططها الاستراتيجية التي قد تكون نتائجها كارثية. رأينا ذلك في الانسحاب من العراق، ومرة أخرى الانسحاب من أفغانستان.
في وسط كل هذا التدافع والصراع الذي يشهده العالم تدفع المرأة الأفغانية الثمن. إحدى النساء الأفغانيات التي حرمتها مؤخراً جماعة طالبان من الحق في التعليم الجامعي قالت: «أنا محطمة بالكامل. لقد خسرت كل أحلامي وانتهت حياتي للأبد». حديث مؤلم، ولكنه للأسف لن يغير على أرض الواقع شيئاً.