ما إنْ أُسدِل الستار على مؤتمر الأطراف السابع والعشرين للدول الأعضاء في اتفاقية الأمم المتحدة حول تغيُّر المناخ، المعروف بـ«كوب 27»، حتى بدأ التحضير لقمم مناخية مقبلة، وكأن العدّ لن ينتهي. فقد باشر المسؤولون والمفاوضون، إلى جانب «سيّاح البيئة»، شدّ الرحال إلى القمة رقم 28 في الإمارات، والقمة 29 في إحدى دول أوروبا الشرقية، والقمة 30 في أميركا اللاتينية أو إحدى الجزر الكاريبية التي بدأت تقديم أوراق اعتمادها. كما برز اقتراح الرئيس البرازيلي الجديد لولا دا سيلفا استضافة المؤتمر الثلاثين في الأمازون، وكأن ما ينقص هذه المنطقة الحساسة وغاباتها المتهالكة مزيدٌ من الخراب، مع هبوط عشرات آلاف المشاركين عليها.
لا غنى عن المفاوضات في القضايا ذات الاهتمام المشترك؛ خصوصاً في موضوع حسّاس مثل المناخ، ينطوي على تفاصيل معقّدة تتداخل فيها الاعتبارات البيئية مع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. لكن لا يجوز للمفاوضات على قضايا عاجلة أن تستمر بلا موعد أقصى، كما لا يجوز أن تتحوّل الاجتماعات إلى مهرجانات خطابية، معظم المشاركين فيها لا دور لهم في المفاوضات، وكثيرون يقصدونها فقط للسياحة الترفيهية والعلاقات العامة.
أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة «اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية المعنية بتغيُّر المناخ» عام 1992، وعُقِد المؤتمر الأول للأطراف الأعضاء (COP 1) عام 1995 في برلين. حصل تقدّم ملموس خلال ثلاثين عاماً؛ لكن الاتفاق على الأمور الأساسية تأخّر؛ لأن العِلم سبق السياسة. فلو قبِلت الدول في المؤتمر الأول عام 1995 بمشورة العلماء، واتفقت على التمويل وتوزيع الأعباء، لما كنا وصلنا إلى المؤتمر السابع والعشرين في مصر، بينما الخلاف لا يزال قائماً على الأساسيات، وكأنّ كلّ ما تحقق خلال هذه الفترة ينحصر في القبول بحقيقة حصول التغيُّر المناخي الخطير نتيجة للنشاطات الإنسانية. إلا أن ثلاثين سنة فترة طويلة جدّاً للوصول إلى هنا. هذا لا يعني أننا لم نكن بحاجة إلى المؤتمر 27 وما بعده. لكن مهمة اجتماعات أعضاء الاتفاقية بعد المؤتمر الأول عام 1995 كان يجب أن تنحصر في متابعة التنفيذ، والتعديل وفقاً للنتائج ومستجدات العِلم، وليس استمرار النقاش حول السؤال الأساسي: كم نخفّض الانبعاثات، ومتى، وكيف نموِّل؟
لو توفرت الإرادة والقدرات اللازمة لإدارة المفاوضات، لكان هذا ممكناً. وللذين لا يتذكّرون التاريخ، فمن المفيد الإشارة إلى أنّ الخطوط الأساسية لاتفاقية الأوزون وُضِعت في مؤتمر وزاري في مونتريال عام 1987، ودخلت حيّز التنفيذ حين عَقدت الدول الأعضاء اجتماعها الأول في هلسنكي عام 1989، وأنشئ صندوق خاص عام 1990، لتمويل الإنهاء الكامل لإنتاج واستخدام المواد المستنفدة لطبقة الأوزون مع حلول عام 1997، بالتزامن مع استبدال مواد مأمونة بها. وفي حين نجح المجتمع الدولي في تنفيذ تعهدات حماية طبقة الأوزون في الوقت المحدد، تستمر اجتماعات الأطراف الأعضاء مرّة كل 3 سنوات، لمراجعة النتائج في ضوء المستجدات العلمية والتأكّد من استمرار الالتزام. فيا ليت الذين يقودون مفاوضات المناخ اليوم يستلهمون رؤية مصطفى كمال طلبة ودبلوماسيته التي أنجزت اتفاق الأوزون في وقت قياسي، وِفق معادلة العِلم والتمويل والعدالة.
ومن معوّقات القمم المناخية تلك: الأعداد الضخمة من المشاركين التي تسافر من كل أصقاع الأرض، مسببة انبعاثات كربونية هائلة، بما يناقض أهداف العمل المناخي. وفي حالات كثيرة، تعرقل هذه الحشود سير المفاوضات وتُفقدها الجدّية. الحلّ هو في تحديد أعداد المشاركين من جميع الفئات، ودمج الحضور الشخصي مع الافتراضي (أونلاين). هكذا يشارك المفاوضون الرئيسيون حضورياً، لأهمية التواصل الشخصي، بينما تشارك فِرَق من خبراء كلّ دولة عن بُعد، في الاجتماعات الرئيسية والجانبية، للمتابعة وتقديم المشورة لرؤساء الوفود وكبار المفاوضين. وينطبق الشيء نفسه على المنظمات الدولية والإقليمية المعنية والهيئات غير الحكومية؛ خصوصاً لأن تدابير الحجر والحدّ من السفر أثناء جائحة «كورونا» ساهمت في تطوير برامج فعّالة للمؤتمرات الافتراضية، بحيث يمكن للآلاف أن يشاركوا عن بُعد، إما مندوبين لهم الحقّ في الكلام وتوجيه الأسئلة، وإما مستمعين، تماماً كما في الاجتماعات الحضورية التقليدية.
ولئلا أُتَّهم بالمواعظ النظرية، فقد بدأت بنفسي، إذ شاركت من بعد في جلسات مؤتمر شرم الشيخ لأكثر من 12 ساعة يومياً، بصفتي رئيساً لوفد «أفد»، ما أتاح لي وقتاً إضافياً لتقديم المشورة؛ حيث لزم الأمر.
ولن يقلل تقليص الحضور الشخصي إلى حدود خمسة آلاف شخص من أربعين ألفاً، من فعالية المؤتمر؛ بل على العكس. وهنا أستعيد نصيحة الدكتور مصطفى كمال طلبة المبنية على تجاربه الناجحة خلال 18 عاماً، في قيادة برنامج الأمم المتحدة للبيئة، وهي أنه يمكن تحقيق أفضل النتائج في اجتماعات مصغّرة تغيب عنها المواقف الشعبوية، شرط أن يتمتع وسيط المفاوضات بروح العدالة، فيتمّ توزيع المسؤوليات والواجبات والمكتسبات على الدول والمجموعات، وفق ما تستحق وتستطيع. لا يمكن حلّ مشكلة التغيُّر المناخي بمعزل عن قضايا مهمة، في طليعتها الحفاظ على الأنظمة الطبيعية. والخطر أن تستأثر مفاوضات المناخ بكل الاهتمام، على حساب أمور أخرى أساسية. فمؤتمر الأطراف لاتفاقية المناخ واحد فقط من الاجتماعات الدورية التي يعقدها الموقّعون على عشرات الاتفاقات البيئية، وكلّها تسمّى «كوب»، أي مختصر «مؤتمر الأطراف» بالإنجليزية، مع أنّ الجمهور يظن أنّ «كوب» محصور في المناخ. وقليلون تنبّهوا إلى أنه بعد قمة المناخ في شرم الشيخ مباشرة، عقد أطراف «اتفاقية الاتجار الدولي في الأنواع المهددة بالانقراض» مؤتمرهم التاسع عشر (كوب 19) في بنما، وقد أوصى بإضافة 500 نوع حيواني ونباتي جديد إلى لائحة المحظورات؛ لأن التجارة فيها بين الدول تهدّد بانقراضها في موائلها الطبيعية، إضافة إلى انتشار فيروسات جديدة ذات أصل حيواني، أو طغيان أنواع حيوانية ونباتية غريبة على الأنواع المحلية. وغداً يُختتم في مونتريال مؤتمر الأطراف الخامس عشر لاتفاقية التنوُّع البيولوجي (COP 15) الذي لم يحظَ بمشاركة واسعة من رؤساء الدول، وغطّت عليه في الإعلام أخبار كرة القدم. وقد بيّنت الدراسات أنه لن يمكن وقف ارتفاع معدلات الحرارة عند 1.5 درجة مئوية من دون حماية الأنظمة الطبيعية، وترميم المدمّر منها؛ خصوصاً أن العالم مهدَّد بانقراض ما يزيد على مليون نوع من الحيوان والنبات، بسبب النشاطات البشرية. وإلى هذه تنضم مؤتمرات لأطراف اتفاقيات بيئية أخرى، مثل التجارة بالنفايات الخطرة والمواد الكيميائية والبحار الإقليمية والتصحُّر، ولكل منها رقمه.
لقد آن الأوان لنزع صفة المهرجانات الجماهيرية عن مؤتمرات «الأطراف»، وتحويلها من الهوامش إلى صلب الموضوع؛ إذ لم نعد نملك القدرة على العدّ.
* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»