خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

شجاعة تطوير الاقتصاد

الفأس اليدوية أو «القاطع الصخري الممسوك باليد» أداة قديمة، ربما كانت أول اختراع عظيم في التاريخ الإنساني، وأداة رئيسية في التطور إلى الهوموسابيان. استخدمها أسلافنا لمدة قد تصل إلى مليون ونصف المليون عام. مكنتهم من الدفاع عن أنفسهم، من تكسير قشور الثمار الصلبة، من رسم علامات على الصخور، ومن استخلاص اللحم من عظام الحيوانات التي تتركها السباع خلفها.
ما هي هذه الأداة؟ مجرد صخرة صغيرة، حولتها فكرة في عقل إنسان إلى آلة حادة، يمكن له أن يحملها في يده، كما نحمل نحن الهاتف الجوال. الفكرة حولتها من مجرد صخرة إلى ركيزة اقتصادية.
اعتماد الاقتصاد على الفكرة لم يتوقف أبداً. هناك فكرة طوعت الحديد، وفكرة فصلت الذهب عن الشوائب وخلقت العملة المعيارية، وفكرة صنعت البارود. اقتصاد الفكرة ظل ينمو وينمو، لكنه لم يزاحم الاقتصاد الريعي، والغنيمة، إلا حديثاً، ربما في منتصف الحقبة الاستعمارية، ولم يحل محله إلا بنهايتها. رأينا البخار الذي يعرفه الإنسان منذ آلاف السنين يتحول إلى محرك، ثم الكهرباء، ثم ثورة الاتصالات التي جعلتك تعطي الأولوية لشراء كومبيوتر أو هاتف جوال على شراء ذهب بالقيمة نفسها، رغم علمك أن الكومبيوتر والهاتف سيبليان إلى قيمة صفرية بعد عدد من السنوات.
وفي الواقع هذا خبر جيد للغاية. لأن الفكرة - الثروة الطبيعية الأهم حالياً - موجودة في عقول البشر. ما ينقصنا حقيقة هو تعلم «التجارة في الفكرة». تبدو الجملة سهلة. المظاهر خادعة. التجارة في الفكرة تعتمد على تغيير فلسفة الإدارة وطريقة رؤية العالم. وهي أكثر المهمات مشقة على الجماعات البشرية.
«التجارة في الفكرة» هي الاستثمار. لكنني أتعمد تسميته التجارة في الفكرة، لأن كلمة الاستثمار ابتذلت حتى صارت عاجزة عن الإشارة إلى ما يلزمه لكي يصير ذا معنى.
بداية، كيف نستخرج الفكرة من عقل الإنسان؟ نعلم أن الأهداف في كرة القدم تأتي بتعظيم احتمالات حدوثها، أي بخلق الفرص. وهكذا تأتي الفكرة أيضاً بخلق بيئة تشجع عليها. نحن نشاهد البريميرليغ. لكننا ننسى أن لاعبي البريميرليغ حصيلة ملايين المباريات الشاطئية، ومباريات الحواري، ومباريات المدارس والجامعات، ودوريات المناطق، ثم دوريات الدرجات الرابعة والثالثة والثانية والأولى. هذا هو المسار الطبيعي لحياتنا على الأرض. وضع تحت كلمة الطبيعي ألف خط. أفضل فلسفة الإنسان ما توافق مع الطبيعة، ثم قادها إلى مكان جديد. الطبيعة انتخاب للأنسب عبر عملية لا يمكن الحكم عليها مسبقاً، أو فرضها. بل عبر التنافس.
في المجتمع الإنساني المعاصر، وبسبب كثرة العدد، وازن الإنسان بين الحرية من جهة، وبين استقرار المجتمع من جهة أخرى، لأسباب معلومة ومفهومة. لكن ما يجب أن نفهمه بالنظر إلى التاريخ الحديث للإنسان أن التطور السياسي حدث في خدمة الحريات الاقتصادية. لم تكن الحقبة الممتدة من منتصف القرن الثامن عشر إلى بداية القرن العشرين في بريطانيا حقبة حريات ديمقراطية، لكنها كانت حقبة حريات اقتصادية. نشأت من تنوع الأنشطة الإنتاجية للأفراد وظهور نشاطات اقتصادية جديدة، ومن ثم الحراك الاجتماعي الذي خلق الطبقة الوسطى من التجار، الصغار والكبار، والمصنعين، الصغار والكبار، ومعه نشأ مفهوم التئام عدد من الصغار لتكوين كيان كبير اسمه «الشركة».
هذه التغيرات الاقتصادية قادت إلى الرخاء، إلى توسع التعليم، كما أدت تنافسيتها إلى خلق أفكار جديدة، تماماً كما تؤدي التنافسية الرياضية إلى خلق تكنيكات جديدة وتحقيق أرقام قياسية أفضل بمرور الوقت.
مصر قطعت شوطاً اقتصادياً شجاعاً في البنية التحتية والطرق، وتخفيف أعباء الدعم الحكومي. اعتقادي أنها تحتاج إلى شجاعة أكبر في الانفتاح الاقتصادي الداخلي والخارجي. لكي يكون لدينا بريميرليغ في الاستثمار لا بد من استثمار تنافسي متناهي الصغر وصغير ومتوسط وضخم، للأفراد والمجموعات والشركات. من أول البقالة والمطاعم الصغيرة إلى قطاع الفنون والرياضة والسياحة.
الدولة والمجتمع في الاقتصاد الحديث ليسا طرفين، الناتج المحلي يجمع المشاريع الكبرى، كما يجمع أيضاً كل قميص أو بنطلون أو حذاء أو مقعد خشبي يملكه أحدنا. وبالتالي إن أدارت حكومة مشروعاً ضخماً لإنتاج الأثاث، لكنه تسبب في إغلاق مئات من ورش النجارة، أو امتلكت مشروعات للإنتاج السينمائي، لكنها تسببت في إفلاس شركات إنتاج صغيرة وتسريح العاملين فيها، فالاقتصاد لم يتحرك، على العكس. هنا يتحول المشروع الحكومي إلى خدعة اقتصادية، وإلى طارد للاستثمار، وإن بدا مستثمراً.
تحتاج الدول إلى الصعود إلى مقعد الحكم في المنافسة الاستثمارية، لا أن تكون طرفاً فيها. يجب ألا نخشى من صعود مراكز نفوذ اقتصادي جديدة، فلا رخاء اقتصادياً بغير هذا الصعود.
ونحتاج أيضاً إلى التخلص من الإرث الاشتراكي في نظرتنا إلى الاقتصاد، وتقويمه. تحسين الوضع الاقتصادي لن يكون بالعودة إلى مزيد من الدعم، ومزيد من تملك الحكومة للمشاريع، ومزيد من الإنفاق على العملة المحلية لتحديد سعرها، ومزيد من الإنفاق بمنطق «أخلاقي» لا استثماري. كل هذه معادلات تناقصية بمعيار الاقتصاد. الطريق الطبيعي لتحسين الاقتصاد هو مزيد من الحريات الاقتصادية للأفراد والشركات الخاصة، التي تدفعها الرغبة في الربح إلى البحث عن الأفكار والتجارة فيها، والتي تتحمل المسؤولية عن الخسارة، كما المسؤولية عن الربح.