عبد الله العريان
TT

لماذا تنتمي كأس العالم للشرق الأوسط؟

عندما أعلن الفيفا عام 2010 أن قطر ستستضيف نهائيات كأس العالم هذا العام، ترك هذا الإعلان مشجعي كرة القدم والمحللين الرياضيين في حيرة من أمرهم. وقيل مراراً إن قطر ليست مناسبة لاستضافة البطولة؛ ذلك أن الطقس شديد الحرارة، ولا توجد ملاعب كافية، حتى إن البلد المضيف لا يملك فريق كرة قدم لائقاً. وبالطبع، كان هناك سؤال حول من سيبني المواقع للألعاب تحت أي ظروف. وصرح رئيس الفيفا السابق الذي أعلن فوز قطر بتنظيم البطولة قبل 12 عاماً، في وقت قريب بنبرة شابها الندم، أن «كرة القدم وكأس العالم أكبر من إمكاناتها».
إحقاقاً للحق، لم تخلُ هذه الشكاوى من بعض الوجاهة؛ ذلك أن درجات الحرارة المرتفعة في يوليو (تموز) ستجعل عقد البطولة في الصيف في حكم المستحيل، وصحيح كذلك أن المنتخب الوطني القطري لم يتأهل من قبل لكأس العالم.
ومع ذلك، يبدو أن بعض ردود الفعل العنيف كانت متجذرة في افتراضات ثقافية خاطئة حول قطر والشرق الأوسط على نطاق أوسع، بما في ذلك الاعتقاد بأن المنطقة تفتقر إلى تاريخ في عالم كرة القدم. وعندما افتتحت البطولة، الأحد، كانت هذه المرة الأولى التي يستضيف فيها العالم العربي، الذي يتجاوز عدد سكانه 440 مليون نسمة، كأس العالم منذ انطلاق البطولة عام 1930. ومع ذلك، تحظى المنطقة في واقع الأمر بتاريخ يمتد لأكثر من قرن من الزمان مع هذه اللعبة الجميلة.
ترتبط قصة كرة القدم العربية ـ مثل كثير من الأشياء في المنطقة ـ بتاريخ الاستعمار والنضال ضده. وطرح المسؤولون البريطانيون والفرنسيون كرة القدم كجزء من الجهود المبذولة لزراعة الطاعة والانضباط بين الشعوب المستعمرة، من خلال التركيز على التكييف البدني والبنية القائمة على القواعد التي توفرها كرة القدم. بدورها، كثيراً ما تعاملت النخب العربية المحلية مع إنشاء نوادي كرة القدم وتنظيم المسابقات لها كمؤشر على التقدم الاجتماعي والثقافي في نضالهم من أجل الاستقلال.
في مصر والأردن وفلسطين والسودان، استعرضت الحركات القومية التي تناضل من أجل الاستقلال عن القوى الاستعمارية، دور كرة القدم في الاحتجاجات وتأسيس الأحزاب السياسية وتعزيز الشعور بالهوية الوطنية. وشكلت حركة الاستقلال الجزائرية، المعروفة باسم «جبهة التحرير الوطني»، فريقاً في المنفى عام 1958 في إطار معركتها ضد الحكم الفرنسي. وتنافس الفريق في مواجهة منتخبات وطنية أخرى حتى قبل أن تكون هناك جزائر مستقلة. علاوة على ذلك، فإن الدوري القطري يسبق استقلال البلاد عام 1971 عن بريطانيا بنحو عقد من الزمان.
وما تزال كرة القدم مرتبطة بالهوية الوطنية في الشرق الأوسط اليوم، وأصبح هذا واضحاً بشكل خاص في ديسمبر (كانون الأول) 2010 بعد أسابيع قليلة من الإعلان عن فوز قطر باستضافة البطولة، اندلعت احتجاجات في العالم العربي، أولاً مع اشتعال انتفاضة في تونس أسقطت الرئيس زين العابدين بن علي، ثم مع ظهور حركات جماهيرية مماثلة في مصر وليبيا وسوريا واليمن ومناطق أخرى.
وتجلت الأهمية الثقافية والسياسية لكرة القدم خلال هذه الانتفاضات؛ في ميدان التحرير بالقاهرة، غالباً ما كانت مجموعات مشجعي كرة القدم، أو «الألتراس»، في الخطوط الأمامية، حيث كانت ترشق الحجارة وتختنق بالغاز المسيل للدموع، بينما تعكف قوات الأمن على قمع المتظاهرين. وبنى «الألتراس» التونسيون لأنفسهم حضوراً كبيراً عبر المنتديات الإلكترونية، وشاركوا الدعوات إلى العمل، في الوقت ذاته، مع تحاشي مراقبة الدولة.
في العالم العربي، كما الحال في مناطق أخرى من العالم، تمتلك كرة القدم وسيلة لأسر الخيال الجمعي، ويمكن لبعض اللاعبين أن يصبحوا محور اهتمام الأجيال. ويمكن للمرء أن يرى هذا في صعود نجومية لاعبين مثل رياض محرز، الجزائري، ومحمد صلاح، المصري؛ وكلاهما فاز بجائزة أفضل لاعب في الدوري الإنجليزي الممتاز، ليتغلبوا بذلك على حدود الفرص في الداخل وقوى التمييز ضد المهاجرين في الخارج. من خلال هذه القصص، عايشت جحافل من المشجعين العرب سحر كرة القدم وقدرتها على التسامي فوق كل الحواجز.
من جانبه، أعرب الشاعر الفلسطيني محمود درويش ذات مرة عن اعتقاده بأن كرة القدم «نطاق تعبير يسمح به تفاهم سري قائم بين الحاكم والمحكوم داخل زنزانة سجن الديمقراطية العربية». وأضاف أن اللعبة «تمثل فضاءً للتنفس، ما يتيح للوطن المنقسم فرصة للالتقاء معاً حول شيء مشترك».
وخلال العقد الذي أعقب الانتفاضات العربية، أصبح كثير من دول الشرق الأوسط أكثر قمعاً، الأمر الذي يجعل أهمية مساحة التنفس التي تتيحها كرة القدم أكثر إلحاحاً عن أي وقت مضى.
ومع ذلك، لا يعي هذه الحقيقة سوى قلة من خارج منطقة الشرق الأوسط وجالياته في الشتات. أما خارج المنطقة، فإنه عندما تجري مناقشة الشرق الأوسط وكرة القدم في العبارة نفسها، عادة ما يكون ذلك في إطار الحديث حول تأثير الأموال على اللعبة.
المؤكد أن استغلال كرة القدم لخدمة أهداف جيوسياسية عرّض نزاهة اللعبة للخطر. ومع ذلك، تظل الحقيقة أننا غالباً ما نشعر بأن ثمة عمى متعمداً. قبل وقت طويل من تحول أنظار صناديق الثروة السيادية الخليجية باتجاه الأندية المتعثرة، كانت البطولات الكبرى في أوروبا غارقة في ضخ سيولة من الصين وروسيا والولايات المتحدة. إن ما فعلته دول الخليج ـ وآخرها شراء المملكة العربية السعودية لنيوكاسل يونايتد العام الماضي ـ لا يعدو كونه تكثيفاً لتوجه تحويل اللعبة إلى مشروعات مرموقة لأصحاب الأموال، وهو توجه ظل سنوات في طور الإعداد. وسواء من خلال رسوم انتقال اللاعبين الفلكية أو أسعار التذاكر الباهظة أو تكاليف الترخيص الهائلة التي تدفعها جهات البث التي يجري نقلها بعد ذلك إلى كاهل المستهلكين، فقد أصبح الوصول إلى كرة القدم غير متاح بشكل مجاني أمام مشجعيها.
وينقلنا ذلك إلى الحدث الرئيسي، ففي حين أن المشجعين في أوروبا وأميركا الشمالية قد يجدون الرحلة إلى الدوحة أمراً شاقاً، فإن بطولة كأس العالم هذه مهيأة لتكون في متناول كثيرين آخرين؛ على سبيل المثال لن يضطر الناس في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط إلى الرحلات الجوية المكلفة عبر المحيطات أو متطلبات التأشيرات الصعبة المنال.
على النقيض من ذلك، كان لدى إحدى الدول المستضيفة لكأس العالم المقبلة، الولايات المتحدة، حتى وقت قريب «حظر للمسلمين» كان من شأنه أن يمنع الإيرانيين من مشاهدة فريقهم وهو يتنافس بالبطولة. اليوم، يخطط ما يصل إلى 100000 إيراني للقيام برحلة قصيرة لحضور البطولة هذا العام.
من ناحية أخرى، طغت قضايا أخرى على أهمية كأس العالم العربي الأولى، وكثير منها مشروع. وكان الشاغل الأكبر حقوق العمال المهاجرين في قطر. وتحدث عن هذا الأمر مراقبو حقوق الإنسان والصحافيون والمشجعون واللاعبون. ومنذ ما يقرب من عقد، حققت منظمة العمل الدولية في مزاعم الاستغلال الممنهج من خلال نظام الكفالة، الذي يمنح أصحاب العمل سيطرة شبه كاملة على عمالهم الوافدين.
إلا أن جزءاً من هذا الخطاب يلعب على المجازات الاستشراقية التي تعامل قطر ودول الخليج الأخرى على أنها استثنائية، بدلاً عن كونها نقطة أخرى في التدفق العالمي لرأس المال والعمالة. ويصور البعض نظام الكفالة باعتباره نتاجاً طبيعياً للثقافة العربية التقليدية. في الواقع، كان هذا النظام اختراعاً استعمارياً بريطانياً.
وفي حين أن الإعلان عن إصلاحات رئيسية تعد بتفكيك نظام الكفالة كان أمراً مشجعاً، فإن مسألة التنفيذ ستظل قائمة بعد فترة طويلة من انتهاء كأس العالم وتحول الأضواء العالمية إلى مكان آخر.
الحقيقة أن كرة القدم قوة ثقافية لا مثيل لها. لقد تجاوز تاريخها المعقد الحدود واستحوذ على قلوب الملايين في الشرق الأوسط وما وراءه. إنه شيء تنعكس عليه الآمال والمخاوف والقلق والتطلعات. ومع وصول الفرق التي تمثل 32 دولة إلى الميدان في الشهر المقبل، ستحتل هذه التطلعات مركز الصدارة.
* مؤرخ ومحرر كتاب «كرة القدم في الشرق الأوسط... الدولة والمجتمع واللعبة الجميلة»

* خدمة «نيويورك تايمز»