بيتر كوي
خدمة «نيويورك تايمز»
TT

الخبير الاقتصادي الذي توقع نظامنا الاقتصادي العالمي

يضم العالم أكثر من 100 عملة، من الكوانزا الأنغولي ونغولترم البوتاني إلى سوم أوزبكستان وفانواتو. والتساؤل هنا: هل هذا الرقم المناسب للاقتصاد العالمي؟ ليس تماماً، ذلك أن وجود كثير من العملات المتقلبة بشكل غير متوقع يثبط التجارة والاستثمار بسبب خلقه حالة من عدم اليقين حول القرارات المرتبطة بالأعمال التجارية.
من جهته، أعرب تشارلز كيندلبيرغر عن اعتقاده بأنه يجب إقرار عملة عالمية واحدة، واقترح الدولار الأميركي لهذا الدور. وقال كيندلبيرغر إن حركة التجارة والاستثمار عبر الحدود ستزداد ويتنامى الازدهار إذا اعتمدت جميع الدول الدولار (مثل الإكوادور على سبيل المثال) أو ربطت عملاتها بالدولار بسعر صرف ثابت، الأمر الذي سيكون له التأثير نفسه تقريباً. وكما سنعاين في هذا المقال، فقد صدق كيندلبيرغر في توقعه على نحو جزئي على الأقل.
وبسبب فلسفته بخصوص المال الموحد، أصبح كيندلبيرغر غريباً منعزلاً داخل الأوساط الأكاديمية، رغم قضائه عقوداً في التدريس بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وتوليه التدريس للعالِم الذي حاز بعد ذلك جائزة نوبل، روبرت مونديل.
ودخل كيندلبيرغر في سجال مع ميلتون فريدمان، عالِم الاقتصاد البارز المتخصص في مجال النقد والذي وضع عام 1953 ورقة بحثية بعنوان «الحجة الداعمة لأسعار الصرف المرنة». في الوقت ذاته، اختلف كيندلبيرغر مع منتقدي فريدمان، الذين أطلق عليهم «الكينزيين»، الذين ساورهم القلق من أن الدول لن تكون قادرة على ضبط الإنفاق والسياسة الضريبية بما يلائم الظروف المحلية إذا أصبحت مضطرة على إبقاء عملاتها في تناغم مع الدولار.
وبدا أن أي أمل في أن تتحقق رؤية كيندلبيرغر قد تحطم عندما أنهى الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون إمكانية التحويل بين الدولار والذهب عام 1971 وتخلى عن محاولات تثبيت أسعار الصرف عام 1973. وخرج وزير الخزانة، جون كونالي، إلى العالم ليعلن أن «الدولار عملتنا، لكنه مشكلتكم».
من جهته، وصف كيندلبيرغر تخلي نيكسون عن الدور المحوري للولايات المتحدة في النظام النقدي العالمي بأنه «جريمة»، وأعرب عن قلقه من أن تؤدي أسعار الصرف غير المستقرة إلى تجفيف الاستثمار طويل الأجل من جانب الدول الغنية في الدول الفقيرة بسبب عدم اليقين والاضطراب.
وربما يكون من المدهش أن العالم يبدو اليوم أقرب إلى رؤية كيندلبيرغر مما كان يتخيله هو نفسه أو منتقدوه. ورغم تقلص حصة الولايات المتحدة في الناتج المحلي العالمي منذ أعقاب الحرب العالمية الثانية، يستمر الدولار في الاضطلاع بدور مهيمن في التدفقات المالية. وأفاد تقرير صادر عن بنك التسويات الدولية عام 2020، بأن «نحو نصف جميع القروض المصرفية عبر الحدود وسندات الديْن الدولية مقومة بالدولار الأميركي». ولا يقتصر الأمر على ذلك، وإنما أضاف التقرير أن نحو 60 في المائة من احتياطات النقد الأجنبي الرسمية في العالم بالدولار، ونحو 85 في المائة من معاملات الصرف الأجنبي تنطوي على الدولار مقابل بعض العملات الأخرى.
علاوة على ذلك، تحول الاحتياطي الفيدرالي فعلياً إلى البنك المركزي العالمي؛ ذلك أنه عندما يرفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة بقوة، مثلما يفعل الآن، تميل البنوك المركزية الأخرى إلى الاحتذاء بحذوه. ومع أن العالم به أكثر من 100 عملة، فإن كثيراً منها مرتبط بطريقة أو بأخرى بالدولار، أو بدرجة أقل باليورو أو الجنيه الإسترليني أو اليوان الصيني. ومع أن محافظي البنوك المركزية الذين يشرفون على هذه العملات لا ينسقون سياساتهم النقدية، فإنهم يسعون بشكل غير رسمي لتجنب التقلبات المزعزعة للاستقرار في أسعار الصرف. (رغم أن الدولار كان قوياً بشكل استثنائي في الفترة الأخيرة).
وعليه، فإنه على ما يبدو كان كيندلبيرغر سابقاً لعصره ـ وهذا تحديداً موضوع كتاب جديد بعنوان «المال والإمبراطورية: تشارلز بي. كيندلبيرغر ونظام الدولار»، من تأليف بيري مهرلينغ، أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية فريدريك إس. باردي للدراسات العالمية التابعة لجامعة بوسطن.
وقد أخبرني مهرلينغ أنه في بادئ الأمر شرع في كتابة نوع من السيرة الذاتية للدولار نفسه، «ثم وجدت تشارلز وأدركت أنه يمكنني تعليق الكتاب بالكامل عليه. هذا يسمح لي بالعثور على عقل للدخول ورؤية العالم من خلال عينيه». وأضاف: «لقد تعلمت منه الكثير».
لعامة الناس، اشتهر كيندلبيرغر بكتاب واحد حمل عنوان «موجات الهوس والذعر والانهيارات: تاريخ الأزمات المالية»، الذي نشر عام 1978. ومع ذلك، يبقى هذا الكتاب مجرد جزء صغير من حياته المهنية الطويلة.
تجدر الإشارة هنا إلى أن كيندلبيرغر ولد عام 1910، وعمل في الحكومة خلال فترة الكساد وكان محلل استخبارات عسكرية خلال الحرب العالمية الثانية. بعد ذلك أسهم في صياغة «خطة مارشال»، التي ساعدت أوروبا الغربية في إعادة البناء. وتولى التدريس بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بدوام كامل بين عامي 1948 و1976. ووصفه مهرلينغ بأنه شخصية نبيلة أشيد بها في عيد ميلاده الـ80 باعتباره «أكثر الاقتصاديين المحبوبين». وقد توفي عام 2003.
ويشير لفظ «الإمبراطورية» في عنوان كتاب مهرلينغ إلى الأيام التي هيمنت فيها بريطانيا على العالم ولعب خلالها الجنيه الإسترليني الدور الذي يلعبه الدولار اليوم تقريباً. أما الفرق فيكمن بطبيعة الحال في أن الإمبراطورية البريطانية كانت إمبراطورية بالفعل. في ذلك الوقت، كان مصرفيو لندن سعداء بتقديم القروض للشركات البريطانية العاملة في المستعمرات، لأنها كانت خاضعة للقانون البريطاني. وقد مكن ذلك المستعمرات من التطور إلى حد ما، وإن كان ذلك تحت سيطرة بريطانيا.
اليوم، تملك الولايات المتحدة سيطرة أقل على المقترضين في الأسواق الناشئة. كان هدف كيندلبيرغر هو «الحصول على الدفعة الاقتصادية التي توفرها الإمبريالية، لكن من دون الجانب السلبي السياسي والاجتماعي للإمبريالية الفعلية»، حسبما كتب مهرلينغ.
كان كيندلبيرغر من أنصار «الاتفاق الجديد» الذي أعلنه الرئيس فرنكلين روزفلت. ومع ذلك، يأتي الأخير في صورة سلبية في الكتاب الذي وضعه مهرلينغ. وحسب الكتاب، فإن روزفلت تسبب في تعميق وإطالة أمد حالة الكساد عام 1933 بسبب تقويضه جهود مسؤولي البنوك المركزية لتحقيق استقرار في أسعار الصرف بين العملات.
وعلى النقيض، طرح مهرلينغ صورة لبول فولك، الذي ترأس الاحتياطي الفيدرالي من 1979 إلى 1987، كبطل لتعاونه مع محافظي البنوك المركزية ومسؤولين ماليين آخرين لاستئناف التعاون الدولي بعد الصدمة التي سببها نيكسون عام 1971.
وسألت مهرلينغ عن رأيه في رئيس الاحتياطي الفيدرالي الحالي، جيروم باول. وقد ذكر باول نفسه مراراً أن مهمة الاحتياطي الفيدرالي حسبما حدده الكونغرس تتمثل في التركيز على هدفين؛ التوظيف الكامل واستقرار الأسعار، وليس رفاهية الدول الأخرى. ومع ذلك، يعي باول أن إجراءات الاحتياطي الفيدرالي التي تضر بباقي العالم سترتد على الولايات المتحدة نهاية المطاف. وعن ذلك، قال مهرلينغ: «هذا هو السبيل الذي تهتم من خلاله بالظروف العالمية». وقال إن قرارات الاحتياطي الفيدرالي برفع معدلات الفائدة كانت مؤلمة، خصوصاً داخل الأسواق الناشئة، لكنها ستمهد الساحة أمام نمو أكثر صحة على المدى الطويل. وقال: «أعتقد أن باول أبلى بلاءً حسناً».
* خدمة «نيويورك تايمز»