فيتالي نعومكين
رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية/ موسكو
TT

جنرالات وعقداء يستذكرون أزمة الصواريخ في كوبا

في سبتمبر (أيلول) من عام 1962، كنت قد بدأت الدراسة في السنة الأولى في قسم اللغة العربية في معهد اللغات الشرقية بجامعة موسكو الحكومية. وبعد شهر تقريباً، دهشت كباقي مواطني بلدي عند سماع أخبار أزمة الكاريبي الخطيرة للغاية، والتي اندلعت فجأة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة (ربما لم نفهم تماماً درجة خطورتها)، كما دهشنا بنفس القدر من انتهائها فجأة أيضاً.
بالطبع، لم أستطع لا أنا ولا رفاقي، بسبب سرية الأحداث، معرفة أي شيء عما كان يحدث بالفعل في العلاقات السوفياتية الأميركية، على عكس ملازم قوات الصواريخ فيكتور يسين، الذي كان مشاركاً فيها. كما لم أكن أتوقع حينها أنني بعد ست سنوات سيتوجب علي أيضاً أن أصبح ضابطاً في الجيش السوفياتي لفترة من الوقت. والأكثر من ذلك، لم أستطع أن أتخيل أنه بعد 50 - 60 عاماً، بصفتي أستاذاً وأكاديمياً، سأناقش اليوم تفاصيل أحداث ذلك الوقت والدروس المستخلصة من تلك الأحداث مع المشارك الوحيد الباقي على قيد الحياة في عملية «أنادير» السرية، الجنرال المتقاعد فيكتور يسين.
الأحداث التي تدور رحاها الآن في العالم، التي يلوح خلالها بعض اللاعبين الغربيين، ممن يدعون أنهم يلعبون دوراً عالمياً خاصاً، بشبح الحرب النووية، تجعلنا نتذكر أزمة منطقة البحر الكاريبي ذاتها، التي اندلعت قبل 60 عاماً بالضبط، بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية. في تلك الأيام، دفعت أشد المواجهات العسكرية والسياسية والدبلوماسية والآيديولوجية والحضارية بين القوتين العظميين، العالم إلى حافة حرب نووية شاملة هددت بفناء كوكبنا.
حينها، ورداً على نصب صواريخ نووية أميركية حول الاتحاد السوفياتي، في تركيا وإيطاليا وبريطانيا، وموجهة بشكل يهدد وجوده، قررت موسكو أن تنشر صواريخها النووية سراً في كوبا، حرفياً «أمام أنف» واشنطن. يقول الجنرال فيكتور يسين إن القوات الصاروخية، كجزء من مجموعة كبيرة من القوات السوفياتية، تم نقلها سراً عن طريق البحر إلى كوبا، حيث كانت ممثلة بفرقة خاصة تم إنشاؤها سراً لهذا الغرض، وتتألف من خمسة أفواج صواريخ، وقواعد إصلاح وصيانة متنقلة، ووحدات الدعم القتالي. بالإضافة إلى الصواريخ الباليستية (آر - 12) و(آر - 14) متوسطة المدى، كانت مجموعة قوات الاتحاد السوفياتي في كوبا مزودة بـ42 قاذفة من طراز (إيل - 28)، و40 مقاتلة من طراز (ميغ - 21)، و34 صاروخاً من طراز «كوميتا» من نظام «سوبكا» الساحلي المضاد للسفن، و80 صاروخ كروز مجنحاً، وست منصات صواريخ تكتيكية «لونا»، و144 صاروخ (إس - 75) المضاد للطائرات. بالإضافة إلى ذلك، كان لدى المجموعة أسلحة نووية قوية: 60 رأساً نووياً لصواريخ (آر - 12) و(آر - 14) بقوة تصل إلى 1 ميغا طن، و80 رأساً نووية لصواريخ كروز المجنحة بقوة 2 إلى 12 كيلو طن، و6 رؤوس حربية نووية لمنظومة الصواريخ «لونا» التكتيكية بقوة 2 كيلو طن لكل منها و6 قنابل ذرية لـقاذفات (إيل - 28).
وقد تم تنفيذ كافة الإجراءات اللازمة لإنجاز العملية بشكل شامل، وبدرجة عالية من السرية، رغم أنه لم يكن لدى القوات الصاروخية خبرة مشاركة في مثل هذه العمليات قبل ذلك الوقت. لكن تجربة نقل الصواريخ عن طريق البحر، كما قال الجنرال فيكتور يسين، كانت قد جرت في السابق، حيث في عام 1959 عندما بدأ تشغيل النظام الصاروخي بصواريخ (آر - 12) ووضعه في الخدمة، تم اختبار تحميل ونقل هذه الصواريخ على متن سفينة «فرولوف» في ميناء سيفاستوبول. جميع الاختبارات تمت بنجاح، ما جعل من الممكن في عام 1960 تطوير تعليمات مؤقتة لنقل صواريخ (آر - 12) والمعدات الأرضية التابعة لها عن طريق البحر. بالإضافة إلى ذلك، اكتسبت القوات الصاروخية بالفعل خبرة في إطلاق الصواريخ برؤوس نووية. فبقرار من القيادة السياسية والعسكرية في عام 1960 من أجل التحقق من موثوقية صواريخ (آر - 12) والشحنات النووية، ودقة إصابة الرؤوس النووية للهدف، تم في 12 و16 سبتمبر 1961 تنفيذ عملية «روزا» بإطلاق صواريخ مجهزة برؤوس نووية إلى موقع الاختبار في منطقة «نوفايا زيمليا».
يمكن لهذا الأسطول بأكمله، إذا لزم الأمر، إلحاق ضرر مؤثر بالولايات المتحدة، رغم أن القيادة السوفياتية كانت تفهم أن الهجوم على أهداف أميركية يمكن أن يتبعه، كما هو متوقع، هجوم على الأراضي السوفياتية. لكن، هل كانوا في الكرملين يعتقدون أنه يمكن تجنب حرب نووية، وأن هذا كان مجرد رادع يمكن استخدامه للتخلص من الصواريخ النووية الأميركية التي كانت تهدد موسكو قرب الحدود السوفياتية؟ أم أنه ببساطة لن يكون لدى الأميركيين الوقت الكافي للرد؟
لنتذكر هنا أن أزمة برلين الحادة، التي بدأت في نوفمبر (تشرين الثاني) 1958 في العلاقات بين الاتحاد السوفياتي والغرب، استمرت حتى عام 1962، ومع تصاعدها، نما حجم الإجراءات السياسية والعسكرية التي نفذتها موسكو. ربما كان ينبغي النظر في نشر مجموعة من القوات السوفياتية في كوبا في سياق إجراءات تقييد الولايات المتحدة عشية النتيجة المتوقعة لقضية برلين، كما يقترح المحلل الروسي بيوتر سكوروسبيلوف. فبناءً على ما نعرفه اليوم عن نظام التخطيط الاستراتيجي في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية في ذلك الوقت، كان هذا واقعياً تماماً.
فكما أخبرني الجنرال فيكتور يسين، أنه في 22 أكتوبر (تشرين الأول)، أدرك لأول مرة هو وزملاؤه في كوبا أن الحرب مع الولايات المتحدة يمكن أن تبدأ بالفعل. إذ تم حينها تسليم القائمين على منظومة الصواريخ 7 رؤوس حربية نووية من قاعدة التخزين، كل واحدة منها يساوي 70 مرة قنبلة هيروشيما. وصواريخ (آر - 12) السوفياتية قادرة على إيصالها بسرعة إلى واشنطن ونيويورك. كان الوضع مقلقاً للغاية. بالمناسبة، قال الجنرال إن علماء من أكاديمية العلوم في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية ساعدوا في التوصل إلى حساب مفاده أنه إذا تم إرسال عدة شحنات نووية بقوة 10 ميغا طن إلى مكان صدع الصفيحة التكتونية في كاليفورنيا، فإن نصف هذه الولاية سينزلق إلى المحيط. تذكرت هذه القصة عندما ألقيت محاضرة في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، وعندما كنت أتجول في سان فرنسيسكو الهادئة والجميلة.
عملية نقل القوات والأسلحة إلى كوبا ونشرها هناك تمت بنجاح، وبعد ذلك فقط اكتشفها الجانب الأميركي بالصدفة، حيث شكل هذا الحدث في الواقع بداية الأزمة.
واليوم، يبدو أن حل هذه الأزمة الأكثر خطورة سلمياً دون خسارة لأي من الجانبين، أشبه بالمعجزة. بيد أنه في السياسة لا مكان للمعجزات، رغم وجود مصادفات سعيدة، ومن بينها حكمة قادة الدول الأطراف في النزاع بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية، وكذلك دور اللاعبين العاديين الفرديين، الذين لعبوا دوراً غير علني نتيجة لظروف معينة في العملية الفريدة للتوصل إلى اتفاقات بشأن الحفاظ على السلام.
من بين هذه الشخصيات ضابط المخابرات العسكرية السوفياتية، العقيد غيورغي بولشاكوف. فقد «رسى عليه الدور» ليصبح قناة اتصالات سرية بين المدعي العام الأميركي روبرت كينيدي والرئيس جون كينيدي من ناحية، والسكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي ورئيس مجلس الوزراء في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية نيكيتا خروتشوف من جهة أخرى. وربما لم يكن ظهور مثل هذا الشخص مصادفة بالكامل، ولم يكن القدر يريد أن تفنى البشرية، وكان لدى قادة القوتين ما يكفي من الحكمة لمنع ذلك. حيث تمكنوا من التوصل إلى اتفاق.
كل شيء حدث بسرعة. وبالفعل في 28 أكتوبر، بدأ العسكريون في الجيش السوفياتي بتفكيك الصواريخ السوفياتية استعداداً لإزالتها من كوبا.