جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

سقطةُ استطلاعات الرأي في البرازيل

العلاقةُ بين استطلاعات الرأي العام والانتخابات وثيقةٌ. أهميتُها تنبعُ من قدرتها على تصميم خريطة سياسية توضح، إلى حدّ ما، توجهات الناخبين وميولهم. وبناءً على ذلك، تتنبأ بالنتائج الانتخابية. ونتائجها قليل ما تكون بعيدة عن تحقيق الهدف، إلا أن تلك العلاقة تتعرض، من حين لآخر، للاهتزاز، وتصبح مثار شكوك، لدى فشلها في التنبؤ، نتيجة عوامل عديدة، من ضمنها أن بعضاً من الناخبين، لدى السؤال، يقدمون عمداً إجابات خاطئة، أو أنهم يقررون فجأة تغيير ميولهم في يوم الاقتراع، أو إخفاقها في قراءة وتحليل المزاج العام للناخبين، خاصة في البلدان المنقسمة سياسياً؛ حيث يكون الاستقطاب السياسي، بين اليمين واليسار، على أشُده. وهذا بدوره يفضي إلى أن تكون تلك المؤسسات والقائمون عليها هدفاً لسهام النقد والاتهام بعدم الحياد، والتشكيك في المصداقية. ولعلنا لم ننسَ بعدُ فشل تنبؤات الاستطلاعات في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، التي جاءت، على غير توقع، بالرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وما دار من سجال وجدال حول تلك المؤسسات، إلا أن ما حدث من مفاجآت في الانتخابات البرازيلية في الأسبوع الماضي، كان استثنائياً، واعتُبر بمثابة سقطة، وانتهى بتلقي مؤسسات الاستطلاعات ضربة موجعة؛ لأن نتائج الانتخابات سارت في خط معاكس لتنبؤاتها، ووضعتها في موقف لا تُحسد عليه. ووفرت ذخيرة للمشككين فيها، لتوجيه المزيد من الطلقات نحو مصداقيتها، والنيل من سمعتها.
والقصة، لمن لا يعلم، باختصار، هي أن تقارير مؤسسات استطلاعات الرأي العام تنبأت، منذ بداية الحملات الانتخابية، بخسارة الرئيس الحالي جايير بولسونارو منذ الجولة الأولى، وفوز منافسه اليساري لويز لُولا دا سيلفا، لكن النتيجة النهائية جاءت مخالفة. صحيح أن الرئيس بولسونارو لم يفز بالانتخابات، وجاء في المركز الثاني، لكن ما حصل عليه من أصوات (43.23 في المائة) كان مفاجئاً، وفاق التوقعات، ومخالفاً لما كان يُنشر، أولاً بأول، في استطلاعات الرأي العام. النتيجة غير المتوقعة للرئيس بولسونارو أتاحت له فرصة دخول مواجهة ثانية وأخيرة في آخر الشهر الجاري، وزادت من فرص ارتفاع نسبة حظوظه في الاحتفاظ بالكرسي الرئاسي لفترة ثانية.
في حين أن منافسه لويز لُولا دا سيلفا، رغم كونه أول الواصلين إلى خط السباق، وحصل على نسبة 48.4 في المائة من الأصوات، فإنّه، على عكس تنبؤات استطلاعات الرأي العام، فشل في تخطي عتبة نسبة 50 في المائة من الأصوات المتوقعة، ليتوج رئيساً للبرازيل من الجولة الأولى. وهذا أدى إلى إصابة مؤيديه ومناصريه بالإحباط، واضطرارهم إلى تأجيل الفرحة بالانتصار، والعودة إلى ميادين الحملات الانتخابية ثانية، حتى موعد السباق النهائي.
ما يُحسب للرئيس بولسونارو، أنّه، طوال الحملة، كان يشكك في صدق ما يُنشر من استطلاعات، ويؤكد على خطئها، مستشهداً بالزخم الهائل لحضور أنصاره في تلك الحملات، إلا أن تصريحاته تلك لم تجد آذاناً صاغية، بسبب موقفه المبدئي الرافض للتصويت الإلكتروني المعتمد في الانتخابات البرازيلية. وفي اليوم التالي للانتخابات، حين ظهرت النتائج النهائية، اعتلى الرئيس بولسونارو أعلى خيله، وظهر مزهواً منتصراً في مؤتمر صحافي، ليؤكد للحاضرين مجدداً على صحة ومصداقية تصريحاته السابقة، ويشكك في صحة ما أُعلن من نتائج انتخابية، ملمحاً إلى إمكانية فوزه، ويعلن أنّه ما زال في انتظار ما ستسفر عنه التحقيقات التي يقوم بها الجيش.
الجولة الأولى، التي جرت يوم الأحد الماضي، لم تكن رئاسية فقط، بل شملت اختيار أعضاء الكونغرس (البرلمان)، ومجلس الشيوخ، وانتخاب حكام الولايات. وحقق حزب الرئيس بولسونارو، «الحزب الليبرالي»، نجاحاً غير متوقع فيها جميعاً. ثمانية من وزراء حكومته حازوا مقاعد في الكونغرس، من ضمنهم وزير الصحة المتهم بالتأخير في توفير جرعات التطعيم ضد الوباء الفيروسي، مما تسبب في موت قرابة 700 ألف مواطن. كما تمكن أعضاء حزبه من حكام الولايات البالغ عددها 27 ولاية، من تحقيق نجاحات باهرة، أهمها نجاح حاكم أكبر ولاية - ريو دي جانيرو - في الحصول على أغلبية غير مسبوقة (58 في المائة من الأصوات) والاحتفاظ بمنصبه.
البرازيل رابع أكبر ديمقراطية في العالم (211 مليون نسمة)، وبالمقارنة، فإن ديمقراطيتها طرية العود، ولم تبدأ فعلياً إلا في عام 1988. وهي عاشر أكبر اقتصاد في العالم، إلا أن عدد المواطنين الذين يواجهون المجاعة وصل إلى 33 مليون مواطن، ونحو 67 مليون مواطن يعيشون تحت مستوى خط الفقر (29 في المائة من عدد السكان) بسبب ارتفاع نسبة التضخم، لكنها حالياً تمر بواحدة من أصعب مراحلها منذ تحررها من قبضة العسكر.
وتهدد ديمقراطيتها، بسبب التنازع على السلطة بين اليمين، بقيادة الرئيس الحالي جايير بولسونارو، واليسار بقيادة الرئيس الأسبق لويز لُولا دا سيلفا. وهناك قلق وخوف من انفلات الأمور وخروجها عن السيطرة باندلاع العنف (67 في المائة من البرازيليين يخشون وقوعه)، وقد يؤدي الأمر إلى عودة العسكر، وتدخل البلاد، مرّة أخرى، في دوامة الديكتاتورية العسكرية. فهل تفلت البرازيل من الوقوع في الفخ؟