عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

أسوأ وضع للمحافظين في ربع قرن

المؤتمر السنوي للحزب، في النظام الديمقراطي البرلماني في بريطانيا، هو أوج النشاط السياسي للأحزاب؛ والبرلمان يعلق لفترة خمول تسمي «recess»، تعرف بموسم المؤتمرات الحزبية لحوالي ثلاثة أسابيع.
المؤتمر فرصة لأعضاء الحزب الحاكم للمراجعة، وبحث مقترحات في لقاءات جانبية لتعديل الرسالة الموجهة للناخب.
مؤتمر حزب المعارضة (أي حكومة الظل) يبحث برنامجاً بديلاً لبرنامج الحكومة.
استطلاعات الرأي بعد مؤتمر الحزب هي مقياس لشعبيته ولقدرته على مواجهة الخصوم في البرلمان والصحافة. وما يهم في بريطانيا دائماً حزبا المحافظين والعمال، فمنذ انتخابات 1923 يتبادلان الحكم (تكونت خلالها 14 حكومة محافظين، سبع عمالية، وخمس ائتلافية أو وحدة وطنية) من خلال 24 انتخاباً منذ فقدان المحافظين بزعامة ستانلي بولدوين (1867 - 1947) تصويت الثقة في البرلمان في 1924 للعمال بزعامة رامزي ماكدونالد (1866 - 1937)، بعد أن حمل العمال (بدل الليبراليين) لواء مصالح الطبقات العاملة والحركات النقابية والتيارات الاشتراكية. وبعد مائة عام يستمر مثقفو اليسار والحركات الماركسية بشيطنة المحافظين أمام الرأي العام كحزب تحالف الرأسمالية التقليدية؛ وهو ما نتناوله عما حدث في مؤتمر المحافظين الذي انتهى الأربعاء.
المؤتمر كان الأسوأ في تاريخ المحافظين، منذ عملي في الصحافة قبل نصف قرن، لتضافر عدة عوامل أضافت إلى سوء حظ المحافظين؛ بجانب انزلاقهم إلى شرك فضائح ضخمتها صحافة يسارية الاتجاه، فأسرعوا بالتخلص من بوريس جونسون زعيمهم السابق (2019 - 2022) الذي كان، ولا يزال، يتمتع بشعبية واسعة بين الناخبين، لا تحظى بها زعيمة الحزب الجديدة، رئيسة الوزراء، إليزابيث تراس، مثلما أبدى أعضاء الحزب في تصويتهم أثناء سباق الزعامة، رغبتهم في عودة جونسون.
فبدلاً من أن ينتهي المؤتمر، كالمعتاد، بارتفاع شعبية حزب الحكومة بزعامة تراس، انخفضت إلى عشرين في المائة فقط مقابل 52 في المائة للعمال؛ وذلك في استطلاع للرأي (أجرته شبكة «جي بي نيوز»، وهي الوحيدة التي لا يسيطر عليها اليسار والليبراليون، وتهتم بأخبار الدوائر والمناطق الشعبية التي تتجاهلها الشبكات الأخرى). وبينما عبّر نصف الناخبين عن فقدانهم الثقة بقدرة الحكومة على مواجهة الأزمات المعيشية، قال 56 في المائة فقط إنهم سيذهبون لمراكز الاقتراع إذا دعيت الانتخابات في القريب العاجل... وذلك لسوء حظ تراس، والمحافظين عموماً، لأنه رغم الأداء الممتاز في الاقتصاد وارتفاع معدلات النمو أسرع من أي بلد أوروبي آخر حتى عامين، جاءت أزمة الوباء العالمي «كوفيد - 19»، الذي كلف الخزانة في العام الماضي وحده أكثر من 86 مليار جنيه (112 مليار دولار بأسعار 2021) لدعم المؤسسات والصناعة فقط. ثم جاءت حرب أوكرانيا وارتفاع أسعار الغاز والطاقة، التي أدت بدورها لزيادة معدلات التضخم ورفع سعر الفائدة.
سوء حظ المحافظين أن 26 في المائة فقط في الاستطلاع المذكور يلومون الأحداث العالمية والحرب، بينما 44 في المائة منهم يلومون الحكومة على ارتفاع الأسعار والأزمة الاقتصادية التي أدت إلى عدد من الإضرابات، كإضراب العاملين في السكة الحديد أثناء انعقاد المؤتمر، واتخذها عدد من نواب البرلمان المحافظين ذريعة للغياب.
وعلى الرغم من أن السيدة تراس تحاول تقليد الزعيمة الراحلة الليدي مارغريت ثاتشر (1925 - 2013)، في المظهر، وفي طريقة إلقاء الخطاب (خصوصاً بالتركيز على النمو الاقتصادي بإعادة الشعار ثلاث مرات) إلا أنها ليست في بلاغة السيدة الحديدية، أو في بلاغة ومستوى ثقافة بوريس جونسون، أو في خفة دمه وسرعة بديهته في إلقاء النكات والقفشات؛ باختصار تفتقر إلى أهم العناصر والمقومات التي تروج من شعبية السياسي بين الناخبين البريطانيين. وهو أمر يقلق عدداً معتبراً من نواب المحافظين، لأن أكثر من ثلثهم كانوا يفضلون وزير المالية الأسبق ريشي سوناك، بينما فضل أعضاء الحزب في الدوائر الانتخابية تراس. وهذا ما حدث مع حزب العمال قبل ستة أعوام عندما اختارت قواعد الحزب من الراديكاليين والماركسيين والاشتراكيين جيرمي كوربن زعيماً، ولم يكن خيار نواب البرلمان العماليين، وانتهى الأمر بهزيمتين للعمال في انتخابات 2017 و2019، لرفض الناخب اتجاهات كوربن الاشتراكية، ولافتقاده للكاريزما، والبلاغة، وروح الدعابة، ولذا يخشى نواب المحافظين تكرار سيناريو العمال معهم في الانتخابات المقبلة (لا بد من إجرائها قبل نهاية 2024).
وإذا لم تحدث متغيرات عالمية لخفض أسعار الطاقة وإنهاء الأزمة الأوكرانية مثلاً، وتحقيق النمو الاقتصادي الذي تعد به تراس ووزير ماليتها كوازي كوارتينغ في مشروع ميزانيته الذي أعلنه قبل أسبوعين (والذي أدى إلى اضطرابات سوق المال وتمرد بعض نواب المحافظين على زعامتهم) وعودة التجارة العالمية إلى الرواج، في خلال عامين، فغالباً سيخسر المحافظون الانتخابات إلا إذا حدثت مفاجأة لم تكن في الحسبان.
أمام المحافظين عند عودة البرلمان بعد غد ثلاثة خيارات.
استمرار نواب المقاعد الخلفية في التمرد، وعدم التصويت مع الحكومة على مشروع الميزانية، مما يؤدي لتصويت سحب الثقة واضطرار الحكومة إلى إجراء انتخابات (أظهرت استطلاعات الرأي أن نصف الشعب يريد إجراءها) سيخسرها المحافظون ويتركون للعمال إرثاً مثقلاً من الأعباء الاقتصادية، فيفشلون، قبل عامين أو ثلاثة من 2029 - موعد انتهاء المدة البرلمانية ويعاد انتخاب المحافظين. الخيار الثاني أن يحاول المحافظون استبدال تراس، وذلك باختيار زعيم آخر، وهي مقامرة غير محسوبة النتائج، لأن الأمر سيستغرق بضعة أشهر تظهر مزيداً من الانقسامات، ولم يحدث أن فاز حزب منقسم على نفسه في الانتخابات البريطانية من قبل.
الخيار الثالث، وهو الأكثر احتمالاً، أن يلتف المحافظون حول الزعامة الحالية، ويدعموا جهود النمو الاقتصادي. التحدي الأكبر ليس الاقتصاد بقدر ما هو قوة ونفوذ وسائل صناعة وتوجيه الرأي العام، التي تدعم بقوة ما سمته تراس «التحالف المناهض للتنمية الاقتصادية»، المكون من جماعات البيئة (الذين يقاومون الاستثمارات في توفير الطاقة المستقلة ويعطلون مصالح الأعمال) والمستفيدين منها المتخفين في شكل خزانات التفكير والاشتراكيين كالعمال والمعارضة اليسارية والقوميين الاسكوتلنديين، وكلهم بلا استثناء في قول رئيسة الوزراء «رافضو البريكست». وخسارة المحافظين للانتخابات طريقهم لإعادة بريطانيا إلى حظيرة الاتحاد الأوروبي، وأولى خطواته كانت التخلص من بوريس جونسون، أكثر زعماء المحافظين شعبية منذ الليدي ثاتشر.