د. ياسر عبد العزيز
TT

الإذاعة سكتت... لكن الصوت مسموع

تعرفت على إذاعة «بي بي سي» العربية مبكراً. كان ذلك في عام 1986، حين وقعت أحداث «الأمن المركزي»، التي تمرد خلالها بعض المجندين المصريين إثر شائعات عن زيادة مدد خدمتهم الإلزامية، فأحدثوا شغباً، ومارسوا عنفاً، في شوارع العاصمة.
وكان اللافت آنذاك أن أفراد عائلتي من الراشدين لم يجدوا في وسائل الإعلام الوطنية ما يشرح لهم تطورات الأحداث، أو يجيب عن أسئلتهم الحيوية، فما كان منهم إلا أن لجأوا إلى «راديو لندن»، ليستمعوا من خلاله إلى «أدق المعلومات وأوفى التحليلات»، بشأن ما يجري في بلادهم، ويؤثر في أمنهم ومصالحهم الحيوية.
لقد انطلقت إذاعة «بي بي سي» العربية، عام 1938، كتعبير إعلامي مسموع يستهدف العالم العربي، قبل أن تنطلق عشرات الخدمات الأخرى، التي استهدفت مناطق مختلفة من العالم بلغات عديدة.
وكان لانطلاق راديو «بي بي سي» العربي قصة لا تخلو من المعاني؛ فلم يكن المدير العام للهيئة اللورد ريث (حينذاك) مؤمناً بالفكرة؛ إذ كان يخشى على «استقلالية الإذاعة وحيادها»، الذي يعده «أهم ما تملك». على أي حال، انطلقت الخدمة، وذهب السفير البريطاني لدى المملكة العربية السعودية إلى خيمة الملك عبد العزيز، ليسمع معه أول نشرة أخبار باللغة العربية من الـ«بي بي سي». لكن الحاضرين بُهتوا جميعاً عند سماع الخبر الثالث. إذ كان نص الخبر كما يلي: «تم شنق عربي من فلسطين بناء على أمر من محكمة عسكرية بريطانية، إثر ضبطه وبحوزته أسلحة وذخائر».
سيعلق السفير البريطاني على الموقف داخل خيمة الملك، في خطاب أرسله لمسؤولي وزارته في لندن لاحقاً، بقوله: «صمتنا جميعاً داخل الخيمة، وتفرّق جمعنا من دون النطق بأي كلمة». إلا أن الملك عبد العزيز أبلغ البريطانيين استياءه الشديد، وعلق قائلاً للسفير البريطاني: «كحاكم، أتفهم أن أولى مهمات الحكومة هي الحفاظ على النظام، لكن هذا الفلسطيني لم يكن ليُعدم لو لم تكن السياسة الصهيونية للحكومة البريطانية وراء ذلك».
شعرت الخارجية البريطانية بإحراج شديد، وأحس المسؤولون أن الـ«بي بي سي»، ليس فقط لا تساعدهم في عملهم بالمنطقة، لكنهم شعروا أيضاً أنها ربما «تعوق سياساتهم وتضر بها»، وهو ما دفع سياسياً بالوزارة إلى الكتابة معلقاً: «هل يجب على الهيئة أن تذيع خبر إعدام كل عربي؟ هذا غير ضروري بالمرة».
لقد استمر النزاع حيال دور الـ«بي بي سي»، كما استمرت الضغوط، واتخذت أشكالاً متعددة، لكن الأكيد أن إدارة الهيئة قاومت تلك الضغوط بشكل أو بآخر، وسعت إلى تكريس التزامها حداً أدنى من القواعد المهنية والالتزامات الأخلاقية، لكي تبقى قادرة على التمتع بثقة الجمهور.
وعلى مدى 84 عاماً من عمر تلك الخدمة «الموجهة» إلى منطقتنا، تفاوتت قدرة الـ«بي بي سي» على الوفاء بالالتزامات المهنية المُعلنة من جانبها، وقوبل عملها بالكثير من الحفاوة والكثير من الانتقادات، لكنها مع ذلك ظلت تتمتع بقدر من الاحترام والثقة رغم أخطاء وإخفاقات مُنيت بها.
وإلى جانب الاحترام والثقة، ارتبطت قطاعات مؤثرة من الجمهور العربي وجدانياً بتلك الإذاعة، وبالأصوات الصادحة عبرها، وباختياراتها للقصص، وبطريقتها في عرضها، وبمستوى من الدقة، ومحاولات لتبني الموضوعية، لم يكن بوسع معظم النظم الإعلامية الوطنية إدراكها بسبب ميلها إلى لعب أدوار دعائية.
إلا أنه منذ مطلع العام الحالي، تكثفت الضغوط على الـ«بي بي سي»، عبر توجهات حكومية لضبط مواردها وتقليص موازنتها، في ظل مراجعة شاملة لجدوى إنفاقها ومردوده. ومن جانب آخر، سعت الهيئة نفسها إلى إعادة هيكلة خدماتها، بما يحقق لها قدراً أكبر من النفاذ، وقدرة أكبر على الاستدامة، في ظل التحولات الاتصالية التي يشهدها العالم وما نجم عنها من تغير في آليات تلقي المواد الإعلامية.
لذا، فقد تضافرت تلك العوامل، لتعلن الـ«بي بي سي»، الأسبوع الماضي، عن إيقاف خدمتها الإذاعية الناطقة باللغة العربية، ضمن عدد آخر من الخدمات الإذاعية الموجهة لمناطق أخرى بلغات مختلفة. ولقد تلقى قطاع كبير من جمهور «بي بي سي» العربية تلك التطورات بقدر من الأسى؛ خصوصاً هؤلاء الذين اعتمدوا على تغطياتها وبرامجها المُهمة، وارتبطوا بسوية أدائها، والأصوات المميزة التي حملت لهم الأخبار والتحليلات والأفكار عبر عقود.
ومع ذلك، فإن الهيئة أكدت التزامها بخطها التحريري وخدماتها المتكاملة ذاتها، لكن عبر منصتها على «الإنترنت»؛ وهو أمر يعكس ما يجري من تحولات عالمية في عمل وسائل الإعلام، التي ستظل تجمع المحتوى، وتعده، وتبثه، عبر الوسيط الذي تقل كلفته، ويصل إلى عدد أكبر من الناس.