عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

محافظو بريطانيا والرهان على الاقتصاد

انتهى الحداد الرسمي على وفاة الملكة إليزابيث الثانية (1926 - 2022)، وعدنا لنمط الحياة اللاهث السرعة في وستمنستر. الصحافيون يستكشفون التغيرات في سياسة فريق إليزابيث تراس، وما إذا كانت ستضع المصلحة القومية ومساعدة المواطنين عملياً، فوق الآيديولوجيا والشعارات، خاصة الاتهامات التي وجهت إلى حكومة المحافظين في السنوات الأخيرة (المحافظون في الحكم وحدهم منذ 2015 وقبلها في ائتلاف مع الديمقراطيين الليبراليين منذ 2010)، فيما يتعلق بالتزامهم بشعارات التيارات اليسارية والخضر وحركة البيئة، والتي كانت من أهم أسباب أزمة الطاقة في بريطانيا وزيادة فواتيرها، وأيضاً تنفيذ وعد المحافظين بإنهاء تقييدات الاتحاد الأوروبي للقوانين البريطانية، التي تعرقل محاولات وزارة الداخلية التعامل مع الهجرة غير الشرعية بقوارب مهربي البشر عبر فرنسا.
جاء التأكيد على السياسات الجديدة يوم الخميس عندما واجه جيكوب ريس - موغ، وزير الأعمال والطاقة والصناعات، مجلس العموم، متحدياً مزاجاً عاماً (يقارب هستيريا الهوس العقائدي) يسعى لهدف مثالي بتحويل البلاد إلى الطاقة الخضراء. وزير الطاقة ألغى الحظر على التنقيب عن الغاز الصخري الذي كانت حكومة جونسون فرضته بسبب احتجاجات جماعات الخضر والبيئة، الذين أثاروا مشاكل كانت تعرقل عمليات التنقيب وتجمد المشروع برمته. والحكومة أيضاً تبحث عن إصلاح وتعديل القوانين المتوارثة منذ معاهدة ماستريخت في الاتحاد الأوروبي، التي تعرقل إصدار تصريحات التنقيب عن حقول غاز وبترول في بحر الشمال.
ريس - موغ جادل بأن معارضة اليسار والخضر آيديولوجية الدوافع تتجاهل الواقع الاقتصادي، بل وتزيد من معدلات التلوث، فاستيراد بريطانيا الطاقة من الخارج، يعني شحن الغاز المسيل (باستهلاك طاقة) بناقلات تحرق محركاتها الوقود الكربوني بجانب تكلفة النقل، والخطر الاستراتيجي من الاعتماد على مصادر أجنبية ليس للبلاد قدرة على تأمينها.
قبل عرض وزير المالية الجديد، كوازي كوارتينغ، مشروع ميزانية الخريف على البرلمان أول من أمس، الجمعة، كانت الخزانة بدأت في تزويد الصحافة البرلمانية بقطرات من معلومات عن سياسة جديدة للنمو الاقتصادي، على المستويات المحلية، في 38 من المقاطعات والبلديات المحلية، وتسريب بعض المقترحات، مثل إلغاء الزيادة المتوقعة في الضريبة على الأعمال والشركات وإبقائها 19 في المائة؛ وإلغاء عدة رسوم وضرائب كان وزير المالية السابق، ريشي سوناك يعدها لدعم الرعايتين الصحية والاجتماعية.
الهدف من التسريبات كان أعداد المراقبين والمعلقين الاقتصاديين لتجنب مفاجأة الأسواق المالية والبورصات، بمشروع ميزانية راديكالي حتى لا تتذبذب الأسعار، خاصة أن بنك إنجلترا المركزي رفع سعر الفائدة مرة أخرى يوماً قبل الميزانية لتصل إلى أعلى مستوى لها لقرابة عقدين.
رغم ذلك، فور إعلان كوارتينغ الميزانية (كان لا يزال يقدمها لمجلس العموم) انخفض الجنيه أمام الدولار لأدنى مستوى له منذ قرابة أربعة عقود، والسبب أن كثيراً من الإجراءات المتخذة، خاصة تجميد أسعار فواتير الطاقة للمنازل والأعمال الصغيرة ستؤدي إلى اقتراض الخزانة ستين مليار جنيه (قرابة ثمانين مليار دولار قبل انخفاض الجنيه)، ويقدر خبراء المال والاقتصاد أنه إذا لم تنخفض أسعار الغاز بمعجزة في منتصف العام المقبل، لن يكون هناك مفر أمام حكومة تراس إلا الاستمرار في دعم أسعار الطاقة مما قد يرفع المديونية إلى مائة بليون جنيه إسترليني، وهو سبب تذبذب الأسعار، وانخفاض سعر الجنيه (الدولار هو الذي يرتفع أمام كل العملات الأخرى بسبب رفع البنك الفيدرالي سعر الفائدة).
ورغم أن الحكومة قدمت المشروع على أنه «تعديلات إصلاحية» فإنه أكبر ثورة في السياسات المالية والضرائبية لدعم الاستثمار منذ ميزانية 1972 لوزير مالية حكومة المحافظين وقتها، أنتوني باربر (1920 - 2005) ـ ولا يزال المؤرخون الاقتصاديون يختلفون حول ميزانيته (اشتملت على تسهيلات بنكية وتخفيض ضرائب وتبسيط القيود على المؤسسات المالية) وأدت إلى رواج اقتصادي سريع، فالاشتراكيون والكينزيون (أتباع نظرية الاقتصادي الإنجليزي جون كينز 1833 - 1946) على السواء يرون باربر مسؤولاً عن تضخم السبعينات والثمانينات، بعكس اقتصاديين حرية السوق وجذب رؤوس الأموال.
الاتهامات الموجهة اليوم لكوارتينغ من اليسار والعمال والاشتراكيين تكاد تكون نسخة كربونية للانتقادات التي وجهت إلى باربر منذ نصف قرن.
ميزانية كوارتينغ أدخلت تعديلات ضخمة لتخفيض تمغة شراء العقار - لتحرك سوقه، وأيضاً تبسيط تعقيدات الضرائب وتخفيضها. لكنها سياسة تثير الجدل، فالتخفيض في نظام الضرائب التصاعدية على الدخل المتبع في بريطانيا يجعل شرائح الدخول العليا أكثر استفادة من التخفيض من أصحاب الدخل المحدود ولا يفيد 43 في المائة لا يدفعون ضرائب أصلاً، إما لتلقيهم إعانات أو لانخفاض دخلهم الشهري عن الحد الأدنى (1250 دولاراً). حكومة تراس ألغت قيوداً وضعها الاتحاد الأوروبي على حوافز ومكافآت العاملين في البنوك، لجذب الاستثمارات وإبقاء لندن المركز المالي العالمي الأول.
الترحيب بالميزانية الجديدة من المستثمرين وأصحاب الصناعات الصغيرة وغرفة اتحاد الصناعات البريطانية لترويج الاقتصاد كان حذراً، ووصفها كثيرون بأنها «مراهنة»؛ لكن اقتصاديين آخرين يرون أن المضي في التقشف، رغم ارتفاع الديون سيكون «مقامرة» أكثر خطورة. تراس وكوارتينغ يجادلان بأن تخفيض الضرائب لجذب الاستثمارات، يؤدي لترويج الاقتصاد وزيادة الوظائف، وبالتالي مزيد من دخل الضرائب للخزانة لدفع الديون التي اقترضت لتمويل السياسة الجديدة.
النظرية بالطبع ثبتت صحتها عبر عقود، لكنها مراهنة تعتبر مجازفة سياسية، لأن فوائد هذه السياسة يجني المجتمع ثمارها على المدى الطويل، لا القصير، والمحافظون سيواجهون انتخابات عامة في خلال عامين، فقط، بينما تتزايد إضرابات الاتحادات المهنية المختلفة (عمال النقل، والبريد، والمواصلات، والمحامين، وعمال الموانئ)؛ أيضاً أغلبية الصحافة ومؤسسات تشكيل الرأي العام اليسارية الاتجاه تتربص بالمحافظين، واستقالة رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون مجبراً لم تكن بسبب الاقتصاد، أو إخفاق الخدمات، بل لحملة الصحافة التي اتهمته بتضليل البرلمان في تبرير إقامة الحفلات بين موظفي مكتبه أثناء إغلاق وباء «كوفيد»، رغم نجاحه في الإسراع بتوفير أمصال التطعيم.
ميزانية باربر، وزير مالية حكومة المحافظين (1970 - 1974) منذ نصف قرن أدت إلى رواج اقتصادي لم يدم طويلاً؛ فقد اندلعت حرب الشرق الأوسط في خريف 1973. وتضاعفت أسعار الوقود، وصاحبها إضرابات عمال النقل والمناجم، وخسرت حكومة المحافظين بزعامة إدوارد هيث (1916 - 2005) الانتخابات عامين بعد ميزانية باربر.