لحسن حداد
برلماني ووزير مغربي سابق
TT

مفارقات التنمية البشرية في زمن الأزمات والاضطرابات والقلق الوجودي

توقَّف تقرير التنمية البشرية لسنتي 2021 - 2022 الذي أصدره صندوق الإنماء التابع للأمم المتحدة عند النكسات التي عرفتها البشرية على مستوى التنمية خلال سنتي 2020 و2021 (أي خلال فترة انتشار الوباء)، التي أرجعت عقارب ساعة التنمية خمس سنوات إلى الوراء. هكذا فإن 87 في المائة من البلدان النامية والمتقدمة على حدٍّ سواء، شهدت تراجعاً على مستوى قيمة مؤشر التنمية البشرية في سنتي 2020 و2021، أي أكثر من أربعة أضعاف ما حصل إبان الأزمة المالية لـ2008، حسب التقرير. خلال السنة الأولى من انتشار الوباء، ارتفعت نسبة القلق والاكتئاب بـ25 في المائة، وهو ما زاد في حدة تدهور الصحة العقلية لدى شرائح كثيرة من المجتمع.
من جانب آخر، فإن نسبة 10 في المائة من ذوي الدخول العليا مسؤولة عن 50 في المائة من الانبعاثات التي تَتَسبّبُ في الاحتباس الحراري، و50 في المائة من ذوي الدخول الدنيا مسؤولة فقط عن 12 في المائة من الانبعاثات. في رأيي هذا الضرب من اللامساواة يجد أسوأ تعبير له في كون البلدان الفقيرة هي التي تتأثر بشكل مباشر وقوي من مساوئ التغيرات المناخية، خصوصاً الجفاف والتصحر والفيضانات والصراعات المترتبة عنها. أضف إلى هذا أن نحو 132 مليون شخص سَيَلِجون منطقة الفقر جراء التغيرات المناخية، حسب التقرير، وأكيد، في رأيي، أن جُلَّ هؤلاء هم من بلدان الجنوب غير المسؤولة عن انبعاثات الغازات المتسببة في الاحتباس الحراري.
لكن اتساع رقعة الفقر وتراجع مستوى دخل الطبقات المتوسطة وتراجع مكتسبات التربية والتحصيل وتقلص هامش تدخل الحكومات خلال السنتين الماضيتين، كانت عوامل كفيلة بتعميق الإحساس بالخوف والقلق والشك الذي كان، وما زال، يسيطر على العقول في دول الجنوب ودول الشمال، على حد سواء.
يستعمل التقرير مفهوم الأنثروبوسين، وهو الحقبة الجيولوجية التي سيطر فيها الإنسان على الطبيعة ومواردها، كوسيلة لشرح مدى علاقة البشرية في الوقت الحاضر مع الطبيعة والموارد والكون، كقضايا وجودية مُلِحَّة.
وما يميز علاقة الإنسان بالأنثروبوسين، يقول التقرير، في الوقت الحاضر هو تضاعف الخوف العادي الذي كان سائداً على مر العصور ليصبح قلقاً وجودياً، وذلك نتيجة لزعزعة التوازنات التي كانت سائدة قبل حقبة السيطرة هذه. القلق الذي يَحْدُث في العلاقة مع الأنثروبوسين سببه هو ارتفاع حرارة الأرض والتقويض الشامل للمنظومات وتوازناتها الذي يؤدي إلى عواقب مناخية وخيمة ومدمرة يشهدها العالم بشكل مستمر.
لهذا، فمن جهةٍ هناك التأثير السلبي للنشاط الإنساني على المنظومة الذي بلغ مستويات بشِعة من الاستغلال المفرط واللامسؤول واللامتوازن للموارد، وضعف قدرة المقاومة والصمود المتمثلة في تدني التنمية البشرية، أي ضعف الوسائل المتاحة لكثير من الشرائح لمواجهة التحديات المناخية الكبرى التي يُحدِثُها النشاط الإنساني اللامسؤول، من جهة أخرى، حسب التقرير (حكم «اللامسؤولية» هو من رأيي الخاص وليس للتقرير).
قلق من نوع آخر يتسبب فيه ما سماه التقرير «استمرار التحولات الاجتماعية العميقة الشبيهة بالثورة الصناعية»، وهذا يعني أن الذكاء الصناعي والعالم الرقمي والمعطيات الضخمة أدت إلى الأتمتة (سيطرة الآلة والذكاء الصناعي) والتأثير السلبي على سوق الشغل، وإلى التحكم الروبوتي في المعلومة وصناعة الأخبار الزائفة كوسيلة للتأثير السياسي والاجتماعي.
رأيي الشخصي هو أن قياس التنمية البشرية أصبح يطرح إشكاليات فلسفية وإبستمولوجية وإجرائية كبرى. أولاً، وهذا أمر أشار إليه التقرير، كيف لأَيٍّ أن يقرر ما هو مهم لشخص آخر، وهل يتعلق الأمر بالتعليم والصحة والدخل المرتفع؟
إذا كانت التنمية هي الإحساس بالسعادة وتحقيق أهداف الشخص الحياتية، فهذا أمر متغير حسب الأشخاص وليس قاراً ولا يمكن قياسه بطريقة كمية ومقارَنة. نعم، تطوير المهارات والصحة الجيدة تُعْطي القدرات لتحقيق الأهداف، ومستوى المعيشة المرتفع كفيل بسَدِّ الحاجيات الحياتية المُلِحَّة وغير المُلِحَّة، ولكن الإحساس بالسعادة وتحقيق الأهداف الحياتية، وما سماه التقرير «الحريات الإنسانية والقدرة على التصرف» واتخاذ القرار، هي أمور تجعل التجربة الحياتية أمْراً مُتحولاً وليس ثابتاً. ولكنها تبقى صعبة القياس وتختلف من شخص لآخر. لهذا يقول التقرير إنه لا يطمح لقياس التجربة الحياتية كلِّها، لكنه يقتصر فقط على بعض العوامل التي تؤثر فيها.
وحتى إذا أخذنا الدخل الذي هو أحد أعمدة التنمية البشرية حسب التقرير، فإنه في الحقيقة يكون مرتفعاً عند من له القدرة على السيطرة على أكبر عدد من الموارد، أي لِمَن يُسخِّر قدرته العلمية والتكنولوجية لاستخراج أو اقتناء أكبر عدد من الموارد واستهلاكها. لهذا فالدخل هنا مرتبط بالاستهلاك، وحتى الولوج إلى التربية والصحة فلا يُتْقِنُها إلا من له سيطرة أكبر على الموارد. قليلة هي الدول التي تبني اقتصادها على المعرفة والإبداع الكفيل باستهلاك الموارد القابلة للتجدد وعلى الاستدامة الشاملة. لهذا فالتنمية البشرية التي يقول بها التقرير هي في العمق غير مستدامة، رغم حديثه عن التأثير السلبي للنشاط الاقتصادي على الأنثروبوسين.
من دون قَلْبِ المعادلة رأساً على عقِب واتخاذ نموذج جديد للتنمية الاقتصادية مبني على الابتكار والاستدامة واستعمال الموارد بشكل يضمن تجَدُّدَها ويسهم في الخفض من الاحتباس الحراري ويعطي للإنسان القدرة على التأقلم والصمود، لا أظن أن التنمية البشرية هي بالفعل في صالح الإنسان على المدَيَيْن المتوسط والبعيد.
إن قياس هذا التوجه عند الأمم هو الذي يعطي لمصادر الموارد المستعمَلة في الرفع من الدخل والتربية والصحة قيمتَها. ولكن الأمرَ معقَّدٌ وقد يقتضي مؤشرات وسيطة على المستوى الزمني تقيس مدى توجه الدول نحو الاستدامة، في علاقتها مع استعمال الموارد. بهذا الشكل، لن يصير تقرير التنمية البشرية عبارة عن قياس لمدى غِنى الدول ودرجة استحواذها على الموارد، وكيف تستعمل ذلك لضمان الولوج إلى الخدمات وضمان استهلاك مرتفعٍ للموارد نفسها.
لقد تحدث التقرير عن الإبداع والتأمين والاستثمار كمداخل لتنمية بشرية مرتكِزةٍ على قيمة مضافة مبنية على التجدد، وعلى وضع شبكات حماية لتحصين الأفراد والعائلات ضد صدمات المرض والبطالة والأعباء العائلية، وعلى الاستثمار فيما هو ضامن للشغل وخلق الفرص وبطريقة مستدامة. ولكن حتى على هذا المستوى يتم الإبقاء على النموذج الاقتصادي المبني على الاستهلاك كأن الموارد لا متناهية، وتبقى الاستدامة فقط موضة فكرية يجب الإشارة إليها، بينما تبقى التنمية البشرية مرادفة للغنى والترف الذي بنته دول غربية عبر استعمال التكنولوجيا والآلة الحربية والاستعمار وآليات الإمبريالية والتحكم للاستحواذ عليها واستغلالها، لتأتي بعد ذلك، ومن دون خجل، لتشير بإصبع الاتهام إلى دول الجنوب على أنها غير قادرة للوصول إلى الموارد نفسها واستغلالها لفائدة شعوبها.