ماريو فارغاس يوسا
روائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».
TT

سلمان رشدي

تعرفت على سلمان رشدي قبل أن تصيبه الشهرة، في إنجلترا مطالع الثمانينات من القرن الماضي. تجاذبنا أطراف الحديث في منزله، ثم توجهنا لحضور مباراة لكرة القدم لتشجيع فريق الحي الذي كنت أسكنه يومذاك. لم أكن أعرف الكثير عن سلمان رشدي، سوى أنه من خريجي جامعة كامبريدج، وأنه كان صدرت له عدة روايات، من بينها «أبناء منتصف الليل» التي تدور حول استقلال الهند، والتي بهرتني، وأعتقد أنها الأفضل بين كل ما كتب. في ذلك اللقاء الأول، حدثني مطولاً عن الأدب الأميركي اللاتيني الذي كان قرأه مترجماً إلى الإنجليزية، وصادراً عن دور نشر أميركية في الولايات المتحدة.
بعد ذلك، ذهب رشدي إلى أميركا الوسطى، وقرأت في كتابه «ابتسامة الفهد» أنه كان ينتقدني مستخدماً الحجج نفسها التي اعتاد على استخدامها في انتقادي اليسار المتطرف في أميركا اللاتينية، وأحجمت عن قراءته لسنوات إلى أن صدر كتابه «آيات شيطانية» في عام 1988، الذي لم يعجبني لكثرة المواضيع التي يتناولها بطريقة سطحية جداً. وما زلت عند رأيي بأن روايته «أبناء منتصف الليل» هي المفضلة عندي، وكتاب رائع لم يتجاوزه في كل ما صدر له لاحقاً من أعمال.
وعندما اندلعت فضيحة «آيات شيطانية» بعد أن أهدر دمه آية الله الخميني، كتبت مقالة دفاعاً عنه ومعرباً عن تضامني مع الدفاع عن الحرية الذي، في نظري، يجب أن يكون راية كل مفكر جدير، وليس أولئك الكتاب الذين يندفعون وراء التضامن مع الإسلاميين المتعصبين، ويستخدمون ما تيسر من ذرائع للتهجم على خصومهم، وأنا من بينهم.
بعد أشهر أو سنوات، اتصل بي رشدي ليلومني على ما قلته عنه في أحد البرامج التلفزيونية، حيث انتقدت تعاطفه مع كوبا والحركة الساندينية في نيكاراغوا، الذي كان يتعارض مع رؤيته لسياسة الدفاع عن الحريات التي كنت أستصوبها كلياً.
وكنت قد اطلعت آنذاك على الصعاب الكثيرة التي كانت تعترض رشدي منذ أن قررت السلطات البريطانية الدفاع عنه، التي لم تكن أبداً كما كان الناس يتصورون. فهو كان ملزماً بتغطية تكاليف أفراد الشرطة المكلفين حمايته، والبحث عن مكان ينام فيه، عادة في ثكنة أو قسم للشرطة، بعيداً عن منال الإرهابيين الذين كانوا، بتوجيه من آية الله الخميني، يسعون إلى اغتياله. وقررنا آنذاك، في معية مدير صحيفة «الباييس» خواكين استيفانيا، دعوته إلى إسبانيا في ندوة شرح لنا خلالها وضعه، وقال، في جملة ما قال، إن فتوى آية الله الخميني هي اعتداء مباشر ضد الحريات.
ثم التقينا مرتين أو ثلاث في نيويورك، في ندوات عامة، ولم نتناقش أبداً في أسلوبينا المختلفين لمواجهة موضوع الحرية، برغم الوضع الذي كان لا يزال يعيش فيه طريدة لجيوش المتعصبين الذين كانوا يحاولون قتله. ومن الأمور التي ما زال يكتنفها الغموض، الاتفاق الذي حصل بين بريطانيا وآية الله الخميني، أو خليفته، والذي بموجبه أوقفت إيران ملاحقة سلمان رشدي وسمحت له بالعيش في نيويورك من غير أن يتعرض للتهديد.
لكن ما حصل منذ أسابيع قليلة في مهرجان شاوتاوكوا الأدبي، وهي قرية صغيرة من أعمال ولاية نيويورك، يدحض نظرية ذاك الاتفاق، لو سلمنا بوجوده، خصوصاً بعد أن شاهدنا كيف احتفت وسائل الإعلام الإيرانية بالذي ارتكب محاولة الاغتيال بحق رشدي، حيث إن الصحف الرئيسية عدّته في مصاف الأبطال، وكالت له أبغض المدائح. وجاء في تصريح للناطق بلسان الحكومة الإيرانية ناصر كنعاني، «من يستحق الإدانة في هذا الاعتداء هو سلمان رشدي وأتباعه»، ليضيف بعد ذلك: «إن التهجم على مقدسات الإسلام وتجاوز الخطوط الحمر لما يزيد عن 1500 مليون مسلم، عرض رشدي لغضب الناس وسخطهم».
وقال وقتها أندرو ويلي الوكيل الأدبي لرشدي، إن حالته الصحية كانت خطرة، وقد عولج في مستشفى قريب، حيث واجه خطر فقدان أحد عينيه نتيجة للاعتداء الذي تعرض له على يد هادي مطر، الذي ما زال في منتصف العقد الثالث من عمره، أي أنه لم يكن مولوداً بعد عندما وجه آية الله الخميني أوامره إلى آلاف الأتباع لاغتيال رشدي.
ثمة تعصب أعمى يدفع المعتدي إلى مثل هذا التصرف ضد واضع كتاب لم يقرأه، وربما قد يقرأه في السجن، حيث سيمضي سنوات عديدة من حياته إذا قام القضاة بواجبهم، وأنزلوا به العقوبة التي يستحقها على فعلته.
التهمة الموجهة من النائب العام للمقاطعة جيسون شميدت، إلى هادي مطر، هي محاولة الاغتيال، والضحية تعرض لجروح بالغة، كما قال الوكيل الأدبي لسلمان رشدي، مشيراً إلى «أن أعصاب طحاله تقطعت نتيجة للطعنات التي تلقاها». وقد خضع للتنفس الصناعي في أحد مستشفيات بنسلفانيا، حيث جاهد الجراحون ساعات لإنقاذه من الموت. وكان رشدي قد تعرض للاعتداء قبل أن يبدأ مداخلته في مهرجان شاتاوكوا الذي تشاء سخرية الأقدار أنه كان مخصصاً لموضوع حماية الكتاب المعرضين للاضطهاد.
عندما بدأت بكتابة هذا المقال، بلغني أن سلمان رشدي قد استعاد رشده، ولفظ كلماته الأولى بعد الحادثة. ويبدو أنه دافع عن نفسه بكل بسالة ضد المعتدي، واستطاع أن ينجو من الاغتيال والطعنات القاتلة، قبل أن ينقل بالهليكوبتر إلى المستشفى الذي يقع في المنطقة التي جرى فيها المهرجان.
لعل أسوأ ما في هذه القصة هو الحماس الذي أبدته صحافة إيران حول محاولة الاغتيال، والمدائح التي أغدقتها على المعتدي، والتي تجعلنا جميعاً نشعر بالخجل. تحدثت عنه كبطل، ونوهت بجبنه، على غرار ما فعلت الصحافة التي تنهل من الحقد الذي زرعه آية الله الخميني قبل حوالي ثلاثين عاماً، علماً بأنه لم يكن قد قرأ الكتاب الذي أدان واضعه.
ولا يسعني اليوم سوى أن أتمنى لرشدي الشفاء التام، وأن يعيده الأطباء إلى الحياة، وإلى الكتب، لأنه كمثل أي كاتب، كرس حياته دائماً للأدب، رغم أن الظروف جعلت منه «كاتباً ملعوناً»، بعيداً كل البعد عما كان عليه عندما تعارفنا تلك الليلة في لندن عندما كان المطر ينهمر بلا شفقة على البريطانيين ورفاقهم، أي نحن الكتاب الذين كانت لنا هواجسنا ومشاكلنا، والتي كانت يومها أبعد ما تكون عن التعصب والمتعصبين. يومها كنا نعيش بعيدين عن ذلك العالم، ولم نكن نشعر بوجود هذه الفئة من الناس التي يجود بها عصرنا اليوم بسخاء.