شاع خلال الفترة الأخيرة استخدام عبارة «القارة العجوز» في كتابات بعض الصحافيين العرب. وغالباً ما يستخدم هؤلاء وصف «العجوز» في سياق الشماتة والتهكُّم على أوروبا، التي تواجه نقصاً حادّاً في إمدادات الطاقة، نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا. وقد سألني مذيعون في مقابلات تلفزيونية عن وضع القارة «العجوز» في سياق الحديث عن المضاعفات البيئية للحرب، فلم أعلّق على التوصيف، بل ذهبت مباشرة إلى صلب الموضوع. لكن هذا الوصف الخاطئ والظالم لا يضير مكانة أوروبا بقدر ما يضرّ مطلقيه، إذ قد يعمم فكرة وهمية في بلدانهم أنهم، عكس «القارة العجوز»، نجحوا في إتمام كل شروط التقدُّم والازدهار، ولم يبقَ على «العجائز» سوى اللحاق بهم. وبينما يبقى الطموح إلى التقدُّم واجباً وحقّاً، فهو يتحقق لا بالشعارات، بل بالعمل الدؤوب والاستفادة من تجارب الآخرين. ومهما كانت عثرات الاتحاد الأوروبي، فالتقاء دوله على قواسم مشتركة اقتصادية وثقافية وبيئية تجعله كتلة مؤثرة في العالم، يبقى تجربة يمكن الاستفادة من نجاحاتها كما من إخفاقاتها.
واللافت أن عبارة «العجوز» تستند إلى ترجمة غير دقيقة. فهي تُستخدم في اللغات الأخرى للإشارة إلى أوروبا كقارة «قديمة»، بمعنى عريقة وناضجة، بينما العبارة المستعملة بالعربية تضعها في خانة العجز والتقاعد.
تزايد الكلام عن «القارة العجوز» في سياق الحديث عن أزمة الطاقة وسبل مواجهتها، التي فرضت على أوروبا اتخاذ تدابير مؤقتة، من ضمنها التوسّع في استخدام الفحم الحجري والبحث عن مصادر جديدة للغاز والبترول، تجنباً للخضوع للابتزاز القيصري عبر أوكرانيا، بقطع إمدادات الغاز والنفط من روسيا. فبدل وضع المشكلة في إطارها الواقعي كحاجة طارئة، اعتبر البعض أن هذا يفضح عدم جدّية الدول الغربية في التعامل مع قضيّة التغيُّر المناخي. وذهب أحدهم إلى استحضار نظرية بائدة تعتبر التغيُّر المناخي مجرّد خدعة لوضع قيود على التطوّر والتقدّم في الدول النامية.
لأننا لا نعيش في عالم مثالي، لم تكن الدول الصناعية مستعدّة للتخلي عن تفوّقها الاقتصادي على نحو سريع وبلا مقابل. كما لم تقبل الدول الفقيرة الالتزام مجاناً بقيود تحدّ من حقّها في اللحاق بركب النمو. لكن المعاهدات البيئية التي أُبرمت خلال العقود القليلة الماضية حاولت توزيع الأعباء والالتزامات بما يتيح تنافساً عادلاً، عن طريق فرض قيود متوازنة على الجميع، مع إعطاء فترة سماح للدول النامية وفق قدراتها، ومساعدتها في التحوُّل إلى أساليب الإنتاج الأنظف ورعاية البيئة وتنمية الموارد. وقد نجحت الاتفاقات البيئية الدولية في مجالات، وقصّرت في أخرى. ومع أنّ الدول الغنية لم تلتزم بكامل وعودها من المساعدات المخصصة للتنمية والبيئة في الدول النامية، إلا أن الدول النامية تتحمل بدورها مسؤولية كبرى في التقصير. وهذا يبدأ من غياب أنظمة الحوكمة الرشيدة وانتشار الهدر والفساد، ولا ينتهي بضعف خطط التنمية وتغليب المصالح الخاصة على الصالح العام. صحيح أنّ الغرب أخطأ في مجالات شتى مع الدول النامية، إلا أنّ هذا لا يعفيها من مسؤولياتها عن الحالة المزرية التي تعيشها. كما لن يخرجها من التخلُّف الاكتفاءُ بإلقاء اللوم على الآخرين واتهامهم بالتآمر.
لم يكن ينقص أوروبا، بعد الانهيارات التي نتجت عن كورونا وحرب أوكرانيا، إلا موجة الحرّ والجفاف التي ضربت إمدادات المياه والمواسم الزراعية هذا الصيف وانفجار أزمة اللاجئين من جديد في أكثر من بلد. علماً بأن معظم اللاجئين ركبوا المخاطر للعبور إلى الضفة الأخرى من المتوسط هرباً من أنظمة قمعية في بلدانهم أو من حروب عبثية وانهيارات اقتصادية تسببت بها حكوماتهم وسدَّت سبل الحياة أمامهم. في مواجهة هذه المشكلات المجتمعة، تحاول الحكومات الأوروبية اتخاذ إجراءات طارئة قد يكون أحلاها مرّاً. وليس صحيحاً أنّ زيادة استخدام الفحم الحجري والبحث عن بدائل أخرى للغاز الروسي - قد تكون أكثر تلويثاً - وإعادة تشغيل محطات نووية قديمة، هي التدابير الطارئة الوحيدة التي اعتمدتها الدول الأوروبية. ففي موازاة هذه الإجراءات، التي تزيد بلا شك من الانبعاثات الكربونية في المدى القصير، اعتمد الاتحاد الأوروبي إجراءات قاسية لتعزيز الكفاءة وتخفيض الاستهلاك. فقد بدأ تقنين الإضاءة في الشوارع والأماكن العامة، حتى إنّ الأضواء في بعض المعالم الأثرية أُطفئت كلياً. ووُضع حدّ أدنى للتبريد صيفاً لا يقلّ عن 25 درجة مئوية وحدّ أعلى للتدفئة شتاءً لا يزيد على 20 درجة. ومنحت دول عدّة حوافز تشجيعية إضافية لاستخدام وسائل النقل العام. كما أطلقت برامج لدعم التحوُّل إلى المضخات الحرارية للتدفئة بدلاً من الغاز، وتخصيص إعانات لتحسين العزل الحراري في الأبنية السكنية والتجارية والصناعية. والأهم من هذا كلّه تسريع برامج إنتاج الكهرباء من الشمس والرياح والهيدروجين. ومن شأن نجاح هذه المبادرات ليس فقط التعويض عن زيادة الانبعاثات في المدى القصير، بل الوصول إلى خفض الانبعاثات الكربونية إلى الحدّ الأدنى قبل المواعيد التي تم الالتزام بها سابقاً. وشهدت تقنيات السيارات الكهربائية الأوروبية وأسواقها تطورات مذهلة خلال الشهور الأخيرة، ما ينذر بأن شراء سيارة تعمل بالوقود قد يُعتبر استثماراً خاسراً خلال سنوات قليلة.
لا شك أن تحقيق هذه التغييرات سيكون صعباً ومكلفاً، في ظلّ انهيارات اقتصادية وحرب ذات نهايات غامضة، تقضّ مضاجع الدول الأوروبية. لكن الأكيد أنّ أوروبا تحاول، من خلال خطط تجمع التصدّي للتحدّيات الآنية الطارئة مع الأهداف المستقبلية الكبرى، الخروج من حقول الألغام بأقلّ مقدار من الخسائر. إلا أن الصمود لن يكون سهلاً. فارتفاع الأسعار قد يثير اضطرابات اجتماعية، ونقص إمدادات الغذاء قد يدفع المزارعين إلى المطالبة بزيادة الإنتاج بدلاً من التقيُّد بالشروط البيئية الصارمة، ووزراء المال والاقتصاد قد يطالبون بتمديد المهلة المرحلية الأوروبية لخفض الانبعاثات إلى ما بعد سنة 2030، لأن عليهم تحويل الأموال المتاحة إلى أمور طارئة أخرى.
لكن هذه الأجواء الضاغطة لم تمنع الحكومات الأوروبية من تأكيد التزاماتها المناخية. لذا، فهي تستحق التقدير على شرف المحاولة، بدلاً من الشماتة بالقارة «العجوز». وأحرى بالشامتين أن يفكّروا في خطط بعيدة المدى تساعد بلدانهم على مواجهة التحدّيات والمخاطر المناخية والبيئية الآتية، بدلاً من التسبب بكتاباتهم في التشكيك بنواياها الحقيقية. والواقع أنه يمكن لبعض الدول العربية، بعدما أصبحت لاعباً أساسياً في العمل المناخي الدولي، الاعتزاز بما تقوم به، من خلال المبادرات الطموحة التي أطلقتها في مجالات الكربون الدائري وتعزيز الكفاءة والطاقة المتجددة.
* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)
ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»