عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

محاولات الإجهاز سياسياً على جونسون

بوريس جونسون تنتهي زعامته لحزب المحافظين، غداً (الاثنين)، بانتخاب خليفة له، ومن ثم رئاسته للحكومة البريطانية، الثلاثاء، بتقديم استقالته للملكة إليزابيث الثانية، فتكلف مَن اختاره الحزب العريق بديلاً بتشكيل «حكومة جلالة الملكة». أنصار جونسون والقاعدة العريضة لحزب المحافظين تطورت همساتهم بأن هناك حملة مخطَّطة ومنسقة للإجهاز على فرصته وشعبيته، للعودة مرة أخرى لزعامة الحزب، بالقضاء عليه سياسياً، إلى صياح علني يجاهرون به.
ساعات قبل انتهاء الموعد المحدد لأعضاء حزب المحافظين بالإدلاء بأصواتهم لاختيار زعيم جديد (الخامسة مساء أول من أمس الجمعة) امتلأ الأثير بتراشق الاتهامات بين تيار قوي من المؤسسة الحاكمة، ورئيس اللجنة البرلمانية (لجنة ثنائية تعمل كواحدة) لمستوى الأداء والامتيازات. النائب العمالي كريس بريانت، والتيار السياسي المناهض لجونسون، في ناحية، وأنصار جونسون والتقليديون في الحزب في ناحية أخرى، حول الاتهامات «بتضليل البرلمان»، وهي تهمة، في حالة ثبوتها، تجهز تماماً على المستقبل السياسي لأي وزير أو زعيم أو نائب.
صحيفة «الديلي ميل» واسعة الانتشار وجهت في افتتاحيتها، الجمعة، وفي مقال رأي لمعلق آخر مؤيد لجونسون انتقاداً حادّاً للجنة البرلمانية التي يرأسها النائب العمالي بريانت (هو من خصوم جونسون ومن زعماء الحملة المناهضة لـ«بريكست») التي نشرت تقريراً عن تحقيقها مع جونسون، وتطالب باتخاذ إجراءات أكثر شدة معه، لأنه «ضلل البرلمان».
حلفاء جونسون في صحافة اليمين يتهمون مؤسسات الدولة العميقة والتيار السياسي الموالي لبروكسل، الذي يريد عكس «بريكست»، بحملة «مطاردة الساحرات» للقضاء سياسياً على جونسون، والثأر من أنصاره، لنجاحهم في إقناع غالبية الشعب بالتصويت لـ«بريكست». افتتاحية «الديلي ميل» وصفت اللجنة البرلمانية بمحكمة الكنغارو (محكمة الكنغر)، وأنها تتعمد تغيير مفاهيم التقاليد البرلمانية للإجهاز على جونسون، ومنعه من ممارسة العمل السياسي في المستقبل.
وكان تحقيق اللجنة بدأ قبل أربعة أشهر بناء على تصويت برلماني طلبته المعارضة، ولم تعارضه الحكومة، فيما إذا كان رئيس الوزراء قدم معلومات مضللة (راجع مقالنا في «الشرق الأوسط»: «فرصة جونسون في النجاة»، 24 أبريل «نيسان») بشأن دوره فيما عرفته الصحافة بـ«بارتي غيت»، عن حفلات وتجمعات في مبني رقم «10 داوننغ ستريت»، وهو مقر رئيس الحكومة، وأيضاً داره التي يقيم فيها، مما خرق لوائح العزل الصحي أثناء وباء «كوفيد».
تتشكل عضوية اللجنة البرلمانية في وستمنستر من جميع الأحزاب، ولكل لجنة رئيس منتخب، والعضوية للنائب كفرد بلا حساب لانتمائه الحزبي. وهناك ست وثلاثون لجنة برلمانية في مجلس العموم الحالي (غير لجان مجلس اللوردات) مقسمة لثلاثة أنواع: الوزارية، وهي تسع عشرة لجنة لمتابعة ومراقبة أداء الوزارات التسع عشرة المختلفة ومحاسبتها، ولجان النشاط المتخصص، وهي تسع، مثل المحاسبة والميزانية العامة، أو مثل البيئة، بجانب لجنة عاشرة تُسمى لجنة التنسيق والمتابعة، وهي أكبر اللجان؛ إذ تتكون من رؤساء اللجان الأخرى، فيكون أعضاؤها ستة وثلاثين، بجانب رئيسها المنتخَب، وهي تحقق في كل الأمور، وعلى رئيس الحكومة أن يمثل أمامها على فترات دورية، ولجان الإدارة الداخلية والمراقبة والمتابعة البرلمانية، وهي سبع لجان، (فعلياً ستّ باللجنة المندمجة التي يرأسها بريانت، والتي حققت مع رئيس الوزراء).
سلطات وعمل اللجان في برلمان وستمنستر هي الأكثر أهمية ونشاطاً عن أي برلمان آخر، لخصوصية الديمقراطية البريطانية؛ فمجلس العموم ليس مثل البرلمانات الأخرى، كالجمعية الوطنية في فرنسا، أو الكونغرس الأميركي. فبجانب الدور التشريعي لمجلس العموم في إصدار القوانين فهو أيضاً الحكومة وحكومة الظل، إذ إن مجلس الوزراء كله (تقريباً) نواب، ويُعرف بـ«البنش الأمامي»، وفي مقابله المعارضة، وهي حكومة الظل التي تقدم سياسات بديلة للناخب، كما أن البرلمان، كممثلي الشعب، هو مَن يحاسب الحكومة ويراقب أعمالها، ويتأكد من التزامها بالقوانين. لكن طبيعة النظام البريطاني؛ بتكوين الأغلبية للحكومة، تضعف من دور البرلمان في المراقبة والمحاسبة داخل قاعة المجلس نفسها لتمتع الحكومة بالأغلبية، وبالتالي الفوز في أي تصويت، وهنا يأتي دور اللجان كجهاز رقابة ومتابعة ومحاسبة مستقل. وهنا يتعاظم دور اللجان الإدارية الداخلية والمتابعة، كلجنة مستوى الأداء والامتيازات، لأنها تتأكد من الالتزام بالتقاليد والممارسات، خاصة في غياب دستور مكتوب، وبالتالي يصبح الالتزام بالعرف التقليدي والسوابق، في حدود الاجتهادات القانونية مهمة بالغة الضرورة. وبريانت، رئيس لجنة الامتيازات، ردد، أول من أمس، أنه كان من الضرورة التأكد مما إذا كان رئيس الحكومة، أو وزير أو نائب آخر ضلل البرلمان. والتقليد المتّبع أن أي وزير يقدم معلومات خاطئة للبرلمان عليه أن يقوم بتصحيحها فور معرفته بالخطأ، أو في أقرب فرصة، شفاهة أو كتابة، وبريانت ولجنته اتهما جونسون بالتباطؤ في تصحيح المعلومات التي أدلى بها للجنة بشأن «بارتي غيت».
جهاز الإدارة الوزارية في حكومة جونسون كان طلب استشارة قانونية من اللورد ديفيد بانيك (وهو محامي نقض ولورد محايد - عير محزب - في مجلس اللوردات، كان ممثل الخصم ضد الحكومة في قضية تأجيل البرلمان التي خسرتها الحكومة قبل ثلاثة أعوام)؛ ما إذا كانت اللجنة البرلمانية التزمت بقواعد العدالة؟
الرأي القانوني للورد بانيك أن لجنة الامتيازات ومستوى الأداء البرلماني لم تلتزم سير العدالة، إذ إنها تغافلت عن تقليد برلماني مهم، بإسقاط كلمة «تعمد» أو «عمداً» من عبارة تضليل البرلمان، أي أن الوزير أو النائب قد يقدم معلومات خاطئة، لكنه لا يعرف وقت الإدلاء بالمعلومات أنها خاطئة، وبالتالي تمنحه التقاليد البرلمانية فرصة تصحيحها بعد ذلك في أسرع وقت، كتابة أو شفاهة. أضاف اللورد بانيك أن تخمين اللجنة بتجاهل نية تعمد تضليل البرلمان يشكل سابقة خطيرة في الأداء الديمقراطي. بريانت أبدى للصحافة «استغرابه» من لجوء الحكومة إلى «استشارة قانونية» من اللورد بانيك، متجاهلاً أن خطوة الحكومة كانت رداً على استشارة قانونية كان هو نفسه طلبها بشأن التحقيق مع جونسون.
جونسون نفسه سيستقل الطائرة بعد غد إلى قلعة بالمورال في اسكوتلندا ليقدم استقالته للملكة، واسم خليفته باختيار الحزب كي تستدعيه في اليوم نفسه لينفذ الأمر بتشكيل الحكومة باسمها، وهي المرة الأولى التي يكلف فيها التاج زعيم حزب الأغلبية تشكيل حكومة من اسكوتلندا، وليس من قصر باكنغهام في لندن.