حنا صالح
كاتب لبناني
TT

نهاية «العهد القوي» وافتضاح التسلط!

اليوم، الأول من سبتمبر (أيلول)، يدخل لبنان المهلة الدستورية لانتخاب رئيس للجمهورية. صحيح أن المادة 73 من الدستور تترك الخيار لرئيس البرلمان لتحديد موعد الدعوة طيلة هذا الشهر، وعلى الأرجح سيأخذ وقته أملاً في ترياق من المجلس الدستوري يبدل جزئياً في تركيبة البرلمان. هذا الأمر لم يعد سراً ولا ضرباً بالغيب، فالتسريب متواصل عن المداولات السرية، والترويج للسطو على الأصوات والتمثيل على قدمٍ وساق! وكما في تغطية منحى تعطيل التحقيق في جريمة تفجير المرفأ، «توقع» حسن نصر الله تغييراً يطال نائبين أو ثلاثة! وبالانتظار تحدد المادة 75 من الدستور أن «المجلس الملتئم لانتخاب رئيس للجمهورية يعد هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية ويترتب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس للدولة بلا مناقشة أي أمرٍ آخر»!
الأكيد أن نهاية «العهد القوي» حلّت منذ وقت غير قصير، ودخل في تاريخ العهود الرئاسية أنه أخذ اللبنانيين إلى الجحيم وعرّض الكيان لخطر حقيقي. في ظلِّه طالت الانهيارات لبنان واللبنانيين وكل شيء، وفي المقابل كان الامتناع عن أي تدبير أو قرار لكبحها. البلد مسروق وشعبه منهوب وعلى حافة الجوع، والوطن رصيف هجرة للشباب والكفاءات، وأعداد متزايدة فضلت الانضمام إلى شعوب «قوارب الموت». وحملت النهاية أوسع إضراب ينفّذه القطاع العام يهدد بأوخم التداعيات، وحتى يكتمل «النقل بالزعرور» بدأ قضاة لبنان اعتكافاً هو الأول في تاريخ البلد. اعتكاف له وعليه، لكنه ما كان ليكون ويعطل البقية الباقية من العدالة، لولا «منظومة النيترات» التي استتبعت القضاء وعلقت استقلاليته، وتفاقم نهج الإذلال منذ قرار عون في عام 2017 الامتناع، خلافاً لأحكام للدستور، عن توقيع مرسوم التشكيلات القضائية ونشره!
ورغم المكابرة وضجيج القصر وفريقه، والتهديد بالفتاوى لتغطية رغبة انقلابية تعكس حالة من هستيريا التمسك بالكرسي، فالأمر أشبه بـ«حشرجة» اللحظات الأخيرة، التي لن تضمن رهان توريث الرئاسة للصهر، النائب باسيل المعاقب دولياً. لكن بالمحصلة دفع لبنان الكثير مقابل هذا الرهان؛ عزلة عربية ودولية لم يعرفها في أي عهد، وتضييقاً على المواطنين العالقين، الذين فرضت عليهم أثمان التغطية الرئاسية والرسمية لاختطاف «حزب الله» للدولة، وتحويل البلد إلى رأس حربة في المشروع الفارسي ضد المنطقة.
والواقع أنه منذ انتقلت «الرئاسة» إلى «العهد القوي» اقتصرت الأولويات على خدمة مصالح تيار الرئاسة وتلبية طموحاته. كانت الرئاسة الفعلية في مكان آخر والواجهة في القصر الجمهوري، لذلك ما من أمرٍ شغل المقيم في القصر عن همِّ «حقوق» فريقه، وتحصينه بالمواقع ومراكز القرار خوفاً من غدرات الزمان!
على مدى الأشهر التي تلت الانتخابات العامة في الخامس عشر من مايو (أيار) الماضي، خاضت الرئاسة معركة شرسة مع الرئيس المكلف عنوانها الحصص في التركيبة الحكومية. لم يتحدث ميقاتي لا عن برنامج ولا عن أهداف، ولم يتوقف عند دلالات انتخابات شهدت تصويتاً عقابياً ضد الطبقة السياسية، فأولويته معروفة؛ تمديد الإقامة في السراي. في المقابل كان الانفصام كاملاً بين القصر وما يمر به البلد مع اتساع الوجع وازدياد الاحتقان الاجتماعي. عون حدد أولويته بمدِّ سطوة باسيل على الوضع الحكومي في مرحلة الشغور الآتية حتماً... ولم ينجح! وكان واضحاً أن الوقت ليس في صالح القصر، فكل يومٍ يمر تتراجع معه إمكانيات إملاء شروط التأليف. وبعيداً عن الفتاوى، في الموعد المحدد سيغادر عون القصر، ويعود بعدها باسيل كنائب يخضع للعقوبات الأميركية وفق قانون ماغنيتسكي!
إنه مشهد مقلق للقصر. يخرج عون من الرئاسة وقد ترك عهده بؤساً مفجعاً ضرب حياة اللبنانيين، وتطوى «زعامة» باسيل الذي لم يصدق أن «ثورة 17 تشرين» نجحت في وضع مستقبله السياسي خلفه. ورغم القانون الانتخابي المفصل على مقاس أطراف طائفية، قلبت نتائج الانتخابات تركيبة البرلمان، ففقد «حزب الله» أغلبيته، ولم تفز بالأغلبية الأطراف الطائفية الأخرى الشريكة في نظام المحاصصة. لذا سارع فريق القصر، المستقوي بـ«حزب الله»، إلى إطلاق موجة انفعالات هدفت إلى تطييف الاستحقاق، مع فتح الباب على مصراعيه لافتعال توتر ماروني - سني! فيتقدم القصر باتجاه السطو على صلاحيات رئيس الحكومة متوهماً أن ذلك يعجل «التسوية»، فيتحول منبر القصر إلى منصة حريقٍ طائفي، مع استقدام رئيس الرابطة المارونية ليعلن أن عون «لا يرى طبيعياً أن الفراغ على مستوى السلطة التنفيذية غير المكتملة المواصفات وغير الحائزة ثقة مجلس النواب، يمكنه أن يملأ فراغاً على مستوى رئاسة الدولة»!
على مدى الأسابيع الماضية عرضنا لكثير من البدع والفتاوى التي تتم فبركتها لتغطية خطوة انقلابية تغطي تمترس عون بالقصر عند انتهاء الولاية. واليوم انتقلوا إلى التأجيج الطائفي والتهويل بمخاطر الشغور، وتناسوأ أن الشغور مقيم في الرئاسة منذ عقود وبلغ الذروة في العهد العوني... الأمر الأكيد أن الممسك الفعلي بصلاحيات الرئاسة وراء كل هذه المشهدية القاتمة. إنه «حزب الله» منظم كل هذه المعارك الدونكيشوتية، لا تضيره طروحات عون، ولا يمانع بقاءه في بعبدا وليتسع الخراب، ولا يتوقف عند ترهات باسيل وازدياد دوره في الرئاسة الواجهة (...) فأولويته المخططات الموكل إليه تنفيذها. فإما رئاسة تستكمل مآثر العهد العوني، وإما الاستثمار بالشغور والفراغ حتى تلاشي كل السلطات في الدولة المخطوفة، علّ ذلك يقرّبه من هدفه النهائي بالاستيلاء على البلد كمساحة جغرافية، على طريق الإلحاق بإمبراطورية الولي الفقيه!
انتهى العهد منذ وقت بعيد والذي انكشف هو التسلط على البلد وعلى اللبنانيين. أكثر من أي وقت مضى، لبنان بين مشروعين لا ثالث لهما: الأول مشروع «حزب الله» الذي يقضم البلد ويمضي في اقتلاعه وإلحاقه، ويعمل لرئيس «مطية» من محدودي المعرفة يستكمل انهيار الجمهورية. والآخر مشروع «ثورة 17 تشرين» للتغيير، الذي يحاكي آمال الناس وأحلامهم بقيام دولة الدستور وحكم القانون بمساءلة ومحاسبة لضمان المساواة أمام العدالة، إلى حماية التعددية والديمقراطية. هذا المشروع يتطلب عدة متكاملة في الرؤية والتنظيم السياسي وصولاً إلى «الكتلة التاريخية» العابرة للمناطق والطوائف والتي ستبلور البديل السياسي.
واليوم يُعدُّ تكتل نواب الثورة الجهة المؤتمنة مرحلياً على قضية التغيير، قراءةً ورؤيةً ومرشحاً، ومن دون أوهام فإن الرهان كبير على ما سيطرحونه لجعل الرئاسة معركة اللبنانيين ومحطة باتجاه التغيير. وبالتزامن لا بد من جهوزية شعبية للرد بقوة على محاولة السطو «المقونن» على التمثيل الشعبي لبعض نواب الثورة!
من الآخر، مع أسوأ طبقة سياسية ناهبة قاتلة تابعة، وأسوأ عهد غطى اختطاف الدولة وتغييب قرارها الحر وتعامى عن الانتهاك المتكرر للسيادة والدستور، يستحيل الركون إلى طروحات سداها ولُحمتها تعزيز مواقع أصحابها في تركيبة نظام المحاصصة الطائفي، وإن تسترت بالحديث عن مواصفات مرشحين وأهليتهم... فإن انتخاب رئيس من هذه الطينة لا يعني استعادة الجمهورية والدستور وسلطة القانون، بل هو دوران في الفراغ. وضمن موازين القوى الراهنة لا يعني ذلك تمكيناً للبنانيين من مغادرة الجحيم الذي تم إرسالهم إليه!